أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْنَا تَقْرِيبَ قُرْبَانٍ يُحْرَقُ بِالنَّارِ، فَقَدْ كَانَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَحْرِقُوا بَعْضَ الْقُرْبَانِ وَقَدْ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِي لِأَنِّي لَمْ آمُرْ بِإِحْرَاقِ الْقَرَابِينِ، أَيْ إِنَّكُمْ لَمْ تَرْضَوْا بِعِصْيَانِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ فَقَطْ بَلْ قَسَوْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلْتُمُوهُمْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ مِنْكُمْ إِلَّا لِأَنَّكُمْ شَعْبٌ غَلِيظُ الرَّقَبَةِ (بِذَا وُصِفُوا فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ) وَأَنَّكُمْ قُسَاةٌ غُلْفُ الْقُلُوبِ لَا تَفْقَهُونَ الْحَقَّ، وَلَا تُذْعِنُونَ لَهُ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنَ اعْتِبَارِ الْأُمَّةِ بِاتِّفَاقِ أَخْلَاقِهَا، وَصِفَاتِهَا، وَعَادَاتِهَا الْعَامَّةِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ يُلْصِقُونَ جَرِيمَةَ الشَّخْصِ بِقَبِيلَتِهِ وَيُؤَاخِذُونَهَا بِهِ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَدُلُّنَا هَذَا عَلَى أَنَّ الْجِنَايَاتِ، وَالْجَرَائِمَ مُرْتَبِطَةٌ فِي حُكْمِ اللهِ - تَعَالَى - بِمَنَاشِئِهَا، وَمَنَابِعِهَا فَمَنْ لَمْ يَرْتَكِبِ الْجَرِيمَةَ؛ لِأَنَّ آلَاتِهَا، وَأَسْبَابَهَا غَيْرُ حَاضِرَةٍ لَدَيْهِ لَا يَكُونُ بَرِيئًا مِنَ الْجَرِيمَةِ إِذَا كَانَ مَنْشَؤُهَا وَالْبَاعِثُ عَلَيْهَا مُسْتَقِرًّا فِي نَفْسِهِ، وَهَذَا الْمَنْشَأُ هُوَ التَّهَاوُنُ بِأَمْرِ الشَّرِيعَةِ، وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِأَمْرِ الْحَقِّ، وَالتَّحَرِّي فِيهِ.
فَإِنْ كَذَّبُوكَ بَعْدَ أَنْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ النَّاصِعَةِ، وَالزُّبُرِ الصَّادِعَةِ، وَالْكِتَابِ الَّذِي يُنِيرُ السَّبِيلَ، وَيُقِيمُ الدَّلِيلَ. فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَحْزَنْ لِكُفْرِهِمْ، وَلَا تَعْجَبْ مِنْ فَسَادِ أَمْرِهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي الْعِبَادِ، وَشَنْشَنَةُ مَنْ سَبَقَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ آبَاءٍ وَأَجْدَادٍ فَقَدْ كَذَّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ فَأَقَامُوا عَلَى أَقْوَامِهِمُ الْحُجَّةَ بِبَيِّنَاتِهِمْ، وَهَزَمُوا قُلُوبَهُمْ بِزُبُرِ عِظَاتِهِمْ، وَأَنَارُوا بِالْكِتَابِ سَبِيلَ نَجَاتِهِمْ فَمَا أَغْنَى ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا انْصَرَفَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ،
وَتَحَرِّي سَبِيلِ الْخَيْرِ. فَالْآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَانٌ لِطِبَاعِ النَّاسِ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ.
وَالزُّبُرُ: جَمْعُ زَبُورٍ بِمَعْنَى مَزْبُورٍ، مِنْ زَبَرْتُ الْكِتَابَ إِذَا كَتَبْتُهُ مُطْلَقًا، أَوْ كِتَابَةً عَظِيمَةً غَلِيظَةً. قَالَهُ الرَّاغِبُ، أَوْ مُتْقَنَةً كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْكُتُبِ وَالصُّحُفِ، يُقَالُ: زَبَرْتُ الْكِتَابَ بِمَعْنَى كَتَبْتُهُ. وَبِمَعْنَى قَرَأْتُهُ، أَوْ بِمَعْنَى الزَّاجِرَةِ، قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَزَبَرَهُ يَزْبُرُهُ بِالضَّمِّ نَهَاهُ وَنَهَرَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: " إِذَا رَدَدْتَ عَلَى السَّائِلِ ثَلَاثًا فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَزْبُرَهُ " أَيْ تَنْهَرَهُ، وَتُغْلِظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، وَالرَّدِّ. وَالزَّبْرُ بِالْفَتْحِ: الزَّجْرُ، وَالْمَنْعُ اهـ. وَأَصْلُ مَعْنَى الزَّبْرِ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ زُبَرُ الْحَدِيدِ قِطَعُهُ، وَيُوشِكُ أَنْ تَكُونَ الزُّبَرُ هُنَا الْمَوَاعِظُ، وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ جِنْسُهُ أَيِ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ، أَوِ الزُّبُرُ صُحُفُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ الْإِنْجِيلُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute