ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَهُوَ: أَنَّ كُلَّ حَيٍّ يَمُوتُ، فَتَذُوقُ نَفْسُهُ طَعْمَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ الَّذِي تَعِيشُ فِيهِ، وَلَكِنَّهُمْ أَوْرَدُوا عَلَيْهَا إِشْكَالَاتٍ بِحَسَبِ عُلُومِ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي تَغَلْغَلَتِ اصْطِلَاحَاتُهَا فِي كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ ; لِذَلِكَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِكَلِمَةِ نَفْسٍ اسْتِعْمَالَاتٌ يَصِحُّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْهَا مَا لَا يَصِحُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَالْمُتَبَادَرُ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْسِ مَا بِهِ الْحَيَاةُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الْحَيَوَانِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ هُنَا بِمَعْنَى الذَّاتِ (أَيْ فَيُقَالُ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْبَارِئُ - تَعَالَى - لِإِضَافَةِ لَفْظِ النَّفْسِ إِلَيْهِ - عِزَّ وَجَلَّ) ، وَاسْتَشْكَلُوا مَوْتَ النَّفْسِ مَعَ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ ; لِأَنَّهَا تُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا يُبْعَثُ الْمَوْجُودُ، وَلَوْ عُدِمَتِ النَّفْسُ لَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا تُبْعَثُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَالُ تُوجَدُ.
وَأَجَابُوا عَنْهُ: كَوْنُهَا بَاقِيَةً لَا يُنَافِي كَوْنَهَا تَذُوقُ الْمَوْتَ، فَإِنَّ الَّذِي يَذُوقُ هُوَ الْمَوْجُودُ، وَالْمَيِّتُ لَا يَذُوقُ لِأَنَّ الذَّوْقَ شُعُورٌ، فَالْحَالَةُ الْمَخْصُوصَةُ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ إِنَّمَا تَشْعُرُ بِهَا النَّفْسُ، وَأَمَّا الْبَدَنُ فَلَا شُعُورَ لَهُ لِأَنَّهُ يَمُوتُ، وَمِنَ الْعَبَثِ، وَالْجَهْلِ الْبَحْثُ فِي تَعْرِيفِ الْمَوْتِ، فَالْمَوْتُ هُوَ الْمَوْتُ
الْمَعْرُوفُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهُنَاكَ جَوَابٌ آخَرُ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا وَأَظْهَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا عَلَى الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي التَّخَاطُبِ الْمُتَبَادِرِ لِكُلِّ عَرَبِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ حَيٍّ يَمُوتُ.
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفَّاهُ أَجْرَهُ: أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَافِيًا بِالْعَمَلِ لَمْ يَنْقُصْهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَمَهْمَا نَالَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَجْرٍ عَلَى عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا يُوَفَّاهُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَالْقِيَامَةِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَيَاةِ الَّتِي بَعْدَ الْمَوْتِ. وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ مَنْ يُنْكِرُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَنَعِيمَهُ، أَيْ مَا تَذُوقُهُ هَذِهِ النُّفُوسُ فِي الْبَرْزَخِ الَّذِي بَيْنَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْقَصِيرَةِ، وَتِلْكَ الْحَيَاةِ الطَّوِيلَةِ، وَهُوَ يُنْسَبُ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَكِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ - وَهُوَ مِنْ أَسَاطِينِهِمْ - يَرُدُّ اسْتِدْلَالَهُمْ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا يُوهِمُ نَفْيَ مَا يُرْوَى مِنْ أَنَّ الْقَبْرَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، قُلْتُ: كَلِمَةُ التَّوْفِيَةِ تُزِيلُ هَذَا الْوَهْمَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ تَوْفِيَةَ الْأُجُورِ وَتَكْمِيلَهَا يَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَمَا يَكُونُ قَبْلَ ذَلِكَ فَبَعْضُ الْأُجُورِ اهـ.
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ: نُحِّيَ وَأُبْعِدَ عَنْهَا، وَاخْتُطِفَ دُونَهُمَا قَبْلَ أَنْ تَلْتَهِمَهُ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: الزَّحْزَحَةُ تَكْرِيرُ الزَّحِّ، وَهُوَ الْجَذْبُ بِعَجَلَةٍ، وَالَّذِي يَهُمُّ بِمَوَاقِعِهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ (لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَجْذِبُ إِلَيْهَا) فَيُنَحَّى عَنْهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ (بِغَلَبَةِ تَأْثِيرِ حَسَنَاتِهِ الْمُضَاعَفَةِ عَلَى سَيِّئَاتِهِ) إِلَى أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَائِزًا فَوْزًا عَظِيمًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute