للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النُّصُوصَ عَنْ مَوَاضِعِهَا الْمَقْصُودَةِ، وَيَصْرِفُونَهَا إِلَى مَعَانٍ أُخْرَى لِيُوَافِقُوا مَا يُرِيدُ الْحَاكِمُ فَيَأْمَنُوا شَرَّهُ، وَيَنَالُوا بِرَّهُ. (وَمِنْهَا) إِرْضَاءُ الْعَامَّةِ، أَوِ الْأَغْنِيَاءِ خَاصَّةً بِمُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ لِاسْتِفَادَةِ الْجَاهِ، وَالْمَالِ. (وَمِنْهَا) - وَهُوَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِي التَّحْرِيفِ - الْجَدَلُ، وَالْمِرَاءُ بَيْنَ رِجَالِ الدِّينِ أَنْفُسِهِمْ لَاسِيَّمَا الرُّؤَسَاءُ وَطُلَّابُ الرِّيَاسَةِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِذَا قَالَ قَوْلًا، أَوْ أَفْتَى فَأَخْطَأَ فَأَبَانَ خَطَأَهُ آخَرُ يَنْبَرِي لِتَصْحِيحِ قَوْلِهِ، وَتَوْجِيهِ فُتْيَاهُ، وَتَخْطِئَةِ خَصْمِهِ، وَتَأْخُذُهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَيَرَى الْمَوْتَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِخَطَئِهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ أَخِيهِ فِي

الْعِلْمِ وَالدِّينِ. (وَمِنْهَا) الْجَهْلُ، فَإِنَّ الْمُتَصَدِّيَ لِلتَّعْلِيمِ، أَوِ الْفُتْيَا قَدْ يَجْهَلُ مَسَائِلَ فَيَتَعَرَّضُ لِبَيَانِهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِذَا أُبِيحَ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَلِّمَ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي نَعْهَدُهَا مِنَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ جَهَلَةَ الطُّلَّابِ بِالتَّدْرِيسِ، وَيُعْطُونَهُمُ الشَّهَادَةَ بِالْعِلْمِ مُحَابَاةً لَهُمْ، فَإِنَّهُ يُرَبِّي تَلَامِيذَ أَجْهَلَ مِنْهُ فَيَكُونُونَ كُلُّهُمْ مُحَرِّفِينَ مُخَرِّفِينَ، وَيَفْسُدُ بِهِمُ الدِّينُ لَاسِيَّمَا إِذَا صَارُوا مُقَرَّبِينَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ. (وَمِنْهَا) انْقِطَاعُ سِلْسِلَةِ أَهْلِ الْفَهْمِ، وَالتَّبْيِينِ، وَخَبْطُ النَّاسِ بَعْدَهُمْ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ مِنْ بَيَانٍ، وَتَأْوِيلٍ، وَحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ حَتَّى بَعُدُوا عَنِ الْأَصْلِ بُعْدًا شَاسِعًا قَالَ: وَانْظُرْ فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ - الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ - وَاعْتَبِرْ بِحَالِ بَعْضِ أَهْلِ الْأَزْهَرِ تَرَى بِعَيْنَيْكَ كَمَا رَأَيْنَا، وَتَسْمَعُ بِأُذُنَيْكَ كَمَا سَمِعْنَا، وَتَفْهَمُ سِرَّ مَا قَصَّهُ اللهُ مِنْ أَنْبَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْنَا.

أَقُولُ: وَمِمَّا سَمِعَهُ هُوَ - وَهُوَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ - قَوْلُ شَيْخٍ مِنْ أَكْبَرِ الشُّيُوخِ سِنًّا وَشُهْرَةً فِي الْعِلْمِ فِي مَجْلِسِ إِدَارَةِ الْأَزْهَرِ عَلَى مَسْمَعِ الْمَلَإِ مِنَ الْعُلَمَاءِ: " مَنْ قَالَ إِنَّنِي أَعْمَلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ " يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ إِلَّا بِكُتُبِ الْفُقَهَاءِ، فَقَالَ لَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " مَنْ قَالَ إِنَّنِي أَعْمَلُ فِي دِينِي بِغَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ الزِّنْدِيقُ " وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَنَارِ فِي زَمَنِهِمَا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ أَضَرُّ عَلَى الدِّينِ وَأَبْعَثُ عَلَى إِضَاعَةِ الْكِتَابِ، وَنَبْذِهِ وَرَاءَ الظَّهْرِ، وَاشْتِرَاءِ ثَمَنٍ قَلِيلٍ بِهِ مِنْ جَعْلِ أَرْزَاقِ الْعُلَمَاءِ وَرُتَبِهِمْ فِي أَيْدِي الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عُلَمَاءُ الدِّينِ مُسْتَقِلِّينَ تَمَامَ الِاسْتِقْلَالِ دُونَ الْحُكَّامِ - لَاسِيَّمَا الْمُسْتَبِدِّينَ مِنْهُمْ - وَإِنَّنِي لَا أَعْقِلُ مَعْنًى لِجَعْلِ الرُّتَبِ الْعِلْمِيَّةِ، وَمَعَايِشِ الْعُلَمَاءِ فِي أَيْدِي السَّلَاطِينِ، وَالْأُمَرَاءِ إِلَّا جَعْلَ هَذِهِ السَّلَاسِلَ الذَّهَبِيَّةَ أَغْلَالًا فِي أَعْنَاقِهِمْ يَقُودُونَهُمْ بِهَا إِلَى حَيْثُ شَاءُوا مِنْ غِشِّ الْعَامَّةِ بِاسْمِ الدِّينِ، وَجَعْلِهَا مُسْتَعْبَدَةً لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَلَوْ عَقَلَتِ الْعَامَّةُ لَمَا وَثَقَتْ بِقَوْلٍ، وَلَا فَتْوًى مِنْ عَالِمٍ رَسْمِيٍّ مُطَوَّقٍ بِتِلْكَ السَّلَاسِلِ، وَقَدِ انْتَهَى الْأَمْرُ بِالرُّتَبِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ أَنْ صَارَتْ تُوَجَّهُ عَلَى الْأَطْفَالِ بَلِ الْجَاهِلِينَ مِنَ الرِّجَالِ حَتَّى قَالَ فِيهَا أَحَدُ عُلَمَاءِ طَرَابُلْسِ الشَّامِ مِنْ قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ فِي سُوءِ حَالِ الدَّوْلَةِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>