وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مِنْ إِعَادَةِ الْفِعْلِ إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَطَالَتِ الْقِصَّةَ تُعِيدُ " حَسِبْتَ " وَمَا أَشْبَهَهَا إِعْلَامًا بِأَنَّ الَّذِي جَرَى مُتَّصِلٌ بِالْأَوَّلِ، فَتَقُولُ: لَا تَظْنَنَّ زَيْدًا إِذَا جَاءَكَ وَكَلَّمَكَ بِكَذَا وَكَذَا فَلَا تَظُنَّهُ صَادِقًا، فَيُقَيِّدُ (لَا تَظُنَّنَّ) تَوْكِيدًا وَتَوْضِيحًا. وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
فَإِذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي
وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ
الْإِمَامُ هَذَا التَّوْجِيهَ فِي الدَّرْسِ عَنِ الْكَشَّافِ وَرَدَّهُ، فَقَالَ: لَوْلَا الْفَاءُ لَصَحَّ، وَلَكِنَّ الْفَاءَ تَمْنَعُ مِنْهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي عَدَمِ زِيَادَةِ حَرْفٍ مَا فِي الْقُرْآنِ بِلَا فَائِدَةٍ، عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِزِيَادَةِ بَعْضِ الْحُرُوفِ، وَبَعْضِ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا يَعْنُونَ زِيَادَتَهَا غَالِبًا بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ لَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ إِثْبَاتَهَا وَتَرْكَهَا سَوَاءٌ، وَوَجْهُ الْعِبَارَةِ هُنَا بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فِي قَوْلِهِ: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ مَحْذُوفٌ حَذْفَ إِيجَازٍ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، قَالَ: وَالْقُرْآنُ مَا أُنْزِلَ لِتَحْدِيدِ الْمَسَائِلِ، وَالْأَخْبَارِ، وَالْقِصَصِ تَحْدِيدًا يَسْتَوِي فِي فَهْمِهِ كُلُّ قَارِئٍ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْأَهَمُّ مِنْهُ إِصْلَاحُ النُّفُوسِ، وَالتَّأْثِيرُ الصَّالِحُ فِيهَا بِتَرْغِيبِهَا فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَنْفِيرِهَا مِنْ ضِدِّهِمَا. فَإِذَا قَالَ هَاهُنَا: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِكَذَا وَيُحِبُّونَ كَذَا تَتَوَجَّهُ نَفْسُ الْقَارِئِ، أَوِ السَّامِعِ إِلَى طَلَبِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَتَذْهَبُ فِيهِ مَذَاهِبَ شَتَّى كُلُّهَا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَلِيقُ بِمَنْ هَذَا حَالُهُمْ، كَأَنْ تُقَدِّرَ: لَا تَحْسَبَنَّهُمْ مُطِيعِينَ لِرَبِّهِمْ، أَوْ عَامِلِينَ بِهِدَايَتِهِ، وَعِنْدَمَا يَرُدُّ عَلَيْهَا بَعْدَهُ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ يَتَعَيَّنُ عِنْدَهَا بِهَذَا التَّفْرِيعِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لَا بِشَخْصِهِ وَعَيْنِهِ بَلْ بِنَوْعِهِ ; لِأَنَّنَا لَوْ قُلْنَا: إِنَّ مَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ هُوَ عَيْنُ مَا أُثْبِتَ فِي الثَّانِي لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِيعِ فَائِدَةٌ. ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -:
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَطَفَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِاتِّصَالِهَا بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَالْوَاوُ فِيهَا عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ عَلَى مِثْلِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَحْزَنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَلَا تَضْعُفُوا وَاصْبِرُوا وَاتَّقُوا وَلَا تُخَوِّرُونَ عَزَائِمَكُمْ، بَيِّنُوا الْحَقَّ، وَلَا تَكْتُمُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا عَمِلْتُمْ، وَلَا تُحِبُّوا أَنْ تُحْمَدُوا بِمَا لَمْ تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَكْفِيكُمْ مَا أَهَمَّكُمْ، وَيُغْنِيكُمْ عَنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي نُهِيتُمْ عَنْهَا، فَإِنَّ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّهُ لَهُ، يُعْطِي مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلَا يَعِزُّ عَلَيْهِ نَصْرُكُمْ عَلَى الَّذِينَ يُؤْذُونَكُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ الْأُمُورُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُهَا بِحِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ. وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ حُجَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ - تَعَالَى -، وَتَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَوَعْدٌ لَهُمْ بِالنَّصْرِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِذَمِّ أُولَئِكَ الْمُخَالِفِينَ الَّذِينَ سَبَقَ
وَصْفُهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ - تَعَالَى - إِيمَانًا صَحِيحًا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي أَخْلَاقِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute