وَأَبُو عَمْرٍو: " وَقَاتَلُوا " بِالْأَلِفِ أَوَّلًا " وَقُتِلُوا " مُخَفَّفَةً، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَاتَلُوا مَعَهُ حَتَّى قُتِلُوا.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ (وَقَاتَلُوا) أَوَّلًا (وَقُتِّلُوا) مُشَدَّدَةً، قِيلَ: التَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَتَكَرُّرِ الْقَتْلِ فِيهِمْ كَقَوْلِهِ: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ [٣٨: ٥٠] وَقِيلَ: قُطِّعُوا، عَنِ الْحَسَنِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، والْكِسَائِيُّ (وَقُتِلُوا) بِغَيْرِ أَلِفٍ أَوَّلًا، (وَقَاتَلُوا) بِالْأَلِفِ بَعْدَهُ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي
[٣: ٤٣] وَالثَّانِي عَلَى قَوْلِهِمْ: قُلْنَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْقَتْلِ أَوْ إِذَا قَتَلَ قَوْمَهُ وَعَشَائِرَهُ، وَالثَّالِثُ بِإِضْمَارِ قَدْ، أَيْ قُتِلُوا وَقَدْ قَاتَلُوا اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ كَلِمَةَ وَقَاتَلُوا رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِغَيْرِ أَلِفٍ كَكَلِمَةِ وَقُتِلُوا وَالرَّازِيُّ لَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ قَرَأَ نَافِعٌ. . . " قَاتَلُوا " بِالْأَلِفِ: إِنَّ الْكَلِمَةَ رُسِمَتْ أَوْ تُرْسَمُ بِالْأَلِفِ فِي الْمُصْحَفِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلتَّوْضِيحِ، يَعْنِي قَرَءُوا بِالْفِعْلِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ ; وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ هُنَا إِفَادَةُ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِهَا، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَعْنَاهُ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأُدْخِلَنَّهُمُ الْجَنَّاتِ، أُثِيبُهُمْ بِذَلِكَ ثَوَابًا مِنَ النَّوْعِ الْعَالِي الْكَرِيمِ الَّذِي عِنْدَ اللهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَالثَّوَابُ: اسْمٌ مِنْ مَادَّةِ ثَابَ يَثُوبُ ثَوْبًا أَيْ رَجَعَ، يُقَالُ: تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ ثَابُوا إِلَيْهِ، وَفِي الْمَجَازِ ثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَحِلْمُهُ إِذَا كَانَ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، وَالْحِلْمِ بِنَحْوِ غَضَبٍ شَدِيدٍ ثُمَّ سَكَتَ عَنْهُ غَضَبُهُ، وَمِنْهُ جَعْلُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاغِبُ: الثَّوَابُ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِ، فَيُسَمَّى الْجَزَاءُ ثَوَابًا تَصَوُّرًا أَنَّهُ هُوَ هُوَ، أَلَا تَرَى كَيْفَ جَعَلَ اللهُ - تَعَالَى - الْجَزَاءَ نَفْسَ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [٩٩: ٧] وَلَمْ يَقُلْ جَزَاءَهُ. وَالثَّوَابُ يُقَالُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، لَكِنَّ الْأَكْثَرَ الْمُتَعَارَفَ فِي الْخَيْرِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ انْتَهَى الْمُرَادُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ لَفْظَ الثَّوَابِ وَالْمَثُوبَةِ حَيْثُ وَقَعَ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ ذِكْرِ الْجَزَاءِ بِالْعِبَارَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيَّنَ الْعَمَلَ، كُلُّ ذَلِكَ يُؤَيِّدُ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي أَخَذْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا إِيضَاحَهَا، وَإِثْبَاتَهَا، وَكَرَّرْنَا الْقَوْلَ فِيهَا بِعِبَارَاتٍ، وَأَسَالِيبَ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْجَزَاءَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْعَمَلِ، أَيْ إِنَّ لِلْأَعْمَالِ تَأْثِيرًا فِي نَفْسِ الْعَامِلِ تُزَكِّيهَا فَتَكُونُ بِهَا مُنَعَّمَةً فِي الْآخِرَةِ، أَوْ تُدَسِّيهَا فَتَكُونُ مُعَذَّبَةً فِيهَا بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ - تَعَالَى -، فَكَأَنَّ الْأَعْمَالَ نَفْسَهَا تَثُوبُ وَتَعُودُ، وَلَيْسَ - أَيِ الْجَزَاءُ - أَمْرًا وَضِيعًا كَجَزَاءِ الْحُكَّامِ بِحَسَبِ قَوَانِينِهِمْ، وَشَرَائِعِهِمْ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ - لَاسِيَّمَا الصُّوفِيَّةُ - كَالْغَزَالِيِّ وَمُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ، وَإِذَا فَقِهَ النَّاسُ هَذَا الْمَعْنَى زَالَ غُرُورُهُمْ، وَلَمْ يَعْتَمِدُوا فِي أَمْرِ مَا يَرْجُونَ مِنْ نَعِيمِ
الْآخِرَةِ وَيَخْشَوْنَ مِنْ عَذَابِهَا إِلَّا عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute