للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِيَكُونَ كَالتَّصْرِيحِ بِتَوْبِيخِ تِلْكَ الْفِئَةِ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ، الَّتِي بَلَغَتْ مِنَ التَّهَتُّكِ فِي النِّفَاقِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَخْلَاقِ أَنْ تَظْهَرَ بِوَجْهَيْنِ، وَتَتَكَلَّمَ بِلِسَانَيْنِ، وَمَا بَلَغَ كُلُّ أَفْرَادِ الصِّنْفِ هَذَا الْمَبْلَغَ مِنَ الْفَسَادِ وَالضَّعْفِ.

وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الْآيَةِ قَالَ بَعْضُ الْوَاهِمِينَ: إِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي مُنَافِقِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْنِيدُهُ فَلَا نُعِيدُهُ. عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِئَةَ أَيْضًا تُوجَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ يَكُونُ فِيهِ لِأَهْلِ الْحَقِّ قُوَّةٌ وَسُلْطَانٌ، وَالْحِكَايَةُ عَنْهَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَالْوَاقِعِ لَا تُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ " إِذَا " تَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَمَعْنَى الْفِعْلِ مُسْتَقْبَلٌ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَتْ صِيغَةُ الْمَاضِي لِتَوْبِيخِ أُولَئِكَ الْأَفْرَادِ وَإِيذَائِهِمْ بِأَنَّ بِضَاعَةَ النِّفَاقِ وَالْمُدَاجَاةِ لَا تَرُوجُ فِي سُوقِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهَا مُزْجَاةٌ، وَأَنَّ اسْتِهْزَاءَهُمْ مَرْدُودٌ إِلَيْهِمْ وَوَبَالَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ.

كَانَ أُولَئِكَ النَّفَرُ يُدْهِنُونَ فِي دِينِهِمْ، فَإِذَا لَقُوا الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: آمَنَّا بِمَا أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.

(وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) مِنْ دُعَاةِ الْفِتْنَةِ وَعُمَّالِ الْإِفْسَادِ وَأَنْصَارِ الْبَاطِلِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ بِمَا يُقِيمُونَ أَمَامَهُ مِنْ عَقَبَاتِ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ، وَمَا يُلْقُونَ فِيهِ مِنْ أَشْوَاكِ الْمَعَايِبِ وَتَضَارِيسِ الْمَذَامِّ، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) : إِنَّهُمُ الرُّؤَسَاءُ. وَالصَّوَابُ مَا قُلْنَا، وَكَمْ مِنْ رَئِيسٍ مَغْمُولٍ، لِمَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْخُمُولِ، لَا يَنْصُرُ اعْتِقَادَهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ فِيهِ رَشَادَهُ، وَفِي عِزَّتِهِ عِزَّهُ وَإِسْعَادَهُ، وَكَمْ مِنْ مَرْءُوسٍ شَدِيدِ الْعَزِيمَةِ قَوِيِّ الشَّكِيمَةِ يَكُونُ لَهُ فِي نَصْرِ مَلَّتِهِ، وَالْمُدَافَعَةِ عَنْ أُمَّتِهِ، مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الرُّؤَسَاءُ، وَلَا يَأْتِي عَلَى أَيْدِي الْأُمَرَاءِ.

وَلِلذُّبَابَةِ فِي الْجُرْحِ الْمُمِدِّ يَدٌ تَنَالُ مَا قَصَّرَتْ عَنْهُ يَدُ الْأَسَدِ

(قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) أَيْ إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى عَقِيدَتِكُمْ وَعَمَلِكُمْ، وَإِنَّمَا نَسْتَهْزِئُ بِالْمُسْلِمِينَ وَدِينِهِمْ، فَكَشَفَ الْقُرْآنُ عَنْ هَذَا التَّلَوُّنِ وَهَذِهِ الذَّبْذَبَةِ، وَقَابَلَهُمْ عَلَيْهَا بِمَا هَدَمَ بُنْيَانَهُمْ وَفَضَحَ بُهْتَانَهُمْ، فَقَالَ: (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أَصْلُ الِاسْتِهْزَاءِ: الِاسْتِخْفَافُ وَعَدَمُ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ فِي النَّفْسِ وَإِنْ أَظْهَرَ الْمُسْتَخِفُّ الِاسْتِحْسَانَ وَالرِّضَا تَهَكُّمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْمُحَالُ بِذَاتِهِ يَصِحُّ إِطْلَاقُ لَازِمِهِ، وَالْمُسْتَهْزِئُ بِإِنْسَانٍ فِي نَحْوِ مَدْحٍ لِعِلْمِهِ وَاسْتِحْسَانٍ لِعَمَلِهِ مَعَ اعْتِقَادِ قُبْحِهِ غَيْرُ مُبَالٍ بِهِ وَلَا مُعْتَنٍ بِعِلْمِهِ وَلَا بِعَمَلِهِ، حَيْثُ لَمْ يُرْجِعْهُ عَنْهُ وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِرْسَالُ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ فِي عَمَلِهِ الْقَبِيحِ، فَمَعْنَى (

اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (أَنَّهُ يُمْهِلُهُمْ فَتَطُولُ عَلَيْهِمْ نِعْمَتُهُ، وَتُبْطِئُ عَنْهُمْ نِقْمَتُهُ) ثُمَّ يُسْقِطُ مِنْ أَقْدَارِهِمْ وَيَسْتَدْرِجُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>