مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةٍ مِنَ الرُّومِ كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى فَأَسْلَمُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْكُفَّارَ بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى الْعِقَابِ بَيَّنَ فِيمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى الثَّوَابِ اهـ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ، ذَكَرَ فَرِيقًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَهْتَدُونَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَكَانُوا مُهْتَدِينَ مِنْ قَبْلِهِ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ هَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَكَرَ مَنْ وَصَفَهُمْ بِالْخُشُوعِ لِلَّهِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِالْكِتَابِ خَاشِعٌ لِلَّهِ، وَهَذَا الْخُشُوعُ هُوَ رُوحُ الدِّينِ، وَهُوَ السَّائِقُ لَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ الْجَدِيدِ، وَهُوَ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَهَذَا الثَّمَنُ يَعُمُّ الْمَالَ وَالْجَاهَ، فَإِنَّ مِنْهُ التَّمَتُّعَ بِمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ صَعْبًا عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتْرُكَ مَا أَلِفَهُ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ عَلَى كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وُعِدُوا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْكَافِرِينَ لِأَجَلِ الْقُدْوَةِ بِهِمْ فِي صَبْرِهِمْ عَلَى الْحَقِّ فِي الدِّينِ السَّابِقِ، وَالدِّينِ اللَّاحِقِ، وَذَكَرَ إِيمَانَهُمْ بِصِيغَةِ التَّأْكِيدِ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ - بِغُرُورِهِمْ بِكِتَابِهِمْ، وَتَوَهُّمِهِمْ الِاسْتِغْنَاءَ بِمَا عِنْدَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ - كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَكَانَ مِنَ الْغَرَابَةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْعِنَادِ وَمُكَابَرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَسَدِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَالتَّشَدُّدِ فِي إِيذَائِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بَعْضُهُمْ إِيمَانًا صَحِيحًا كَامِلًا ; وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ قَلِيلِينَ، وَكَانُوا مِنْ خِيَارِهِمْ عِلْمًا، وَفَضْلًا، وَبَصِيرَةً، وَإِنَّنَا نَرَى عُلَمَاءَنَا الْأَذْكِيَاءَ فِي هَذَا الْعَصْرِ قَلَّمَا يَرْجِعُونَ عَنْ عَقِيدَةٍ، أَوْ رَأْيٍ فِي الدِّينِ جَرَوْا عَلَيْهِ، وَتَلَقَّوْهُ عَنْ مَشَايِخِهِمْ، وَقَرَءُوهُ فِي كُتُبِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا، وَخَطَأً ظَاهِرًا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَأْيِيدٌ لِكَوْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ضِيقٍ خَيْرًا مِنْ حَالِ الْكَافِرِينَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سَعَةٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى حَالِ الْأَخْيَارِ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَيْفَ لَا يَحْفُلُونَ بِذَلِكَ الْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ. بَلْ يُؤْثِرُونَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى -، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَثَلِ وَالْأُسْوَة لِلْمُسْلِمِينَ.
أَقُولُ: وَصَفَهُمْ بِخَمْسِ صِفَاتٍ - إِحْدَاهَا: الْإِيمَانُ بِاللهِ، يَعْنِي الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا تَشُوبُهُ نَزَغَاتُ الشِّرْكِ، وَلَا يُفَارِقُهُ الْإِذْعَانُ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ، لَا كَمَنْ قَالَ فِيهِمْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [٢: ٨] وَلَا مَنْ قَالَ فِيهِمْ: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [١٢: ١٠٦] ثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدَّمَهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ ; لِأَنَّهُ الْعُمْدَةُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَلَهُ الْهَيْمَنَةُ، وَالْحُكْمُ الْفَصْلُ فِي الْخِلَافِ لِثُبُوتِهِ بِالْيَقِينِ، وَعَدَمِ طُرُوءِ الضَّيَاعِ عَلَيْهِ وَالتَّحْرِيفِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute