للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خُصُوصًا الْحَنَفِيَّةَ مِنْهُمُ الَّذِينَ بِيَدِهِمُ الْأَمْرُ، وَعَلَى مَذْهَبِهِمُ

الْحُكْمُ، فَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الدِّينَ أُنْزِلَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ، وَخَيْرِهِمْ، وَأَنَّ مِنْ أُصُولِهِ مَنْعَ الضَّرَرِ، وَالضِّرَارِ، فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَى شَيْءٍ مَفْسَدَةٌ فِي زَمَنٍ لَمْ تَكُنْ تَلْحَقُهُ فِيمَا قَبْلَهُ فَشَكَّ فِي وُجُوبِ تَغَيُّرِ الْحُكْمِ، وَتَطْبِيقِهِ عَلَى الْحَالِ الْحَاضِرَةِ: يَعْنِي عَلَى قَاعِدَةِ (دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ) . قَالَ: وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ مُحَرَّمٌ قَطْعًا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ عَدَمِ الْعَدْلِ.

هَذَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ الْأَوَّلِ الَّذِي فَسَّرَ فِيهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ فِي الدَّرْسِ الثَّانِي: تَقَدَّمَ أَنَّ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مُضَيَّقَةٌ قَدِ اشْتُرِطَ فِيهَا مَا يَصْعُبُ تَحَقُّقُهُ فَكَأَنَّهُ نَهَى عَنْ كَثْرَةِ الْأَزْوَاجِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَمَا فَهِمَ بَعْضُ الْمُجَاوِرِينَ أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا، أَوْ فَاسِدًا، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ عَارِضَةٌ لَا تَقْتَضِي بُطْلَانَ الْعَقْدِ، فَقَدْ يَخَافُ الظُّلْمَ، وَلَا يَظْلِمُ، ثُمَّ يَتُوبُ فَيَعْدِلُ فَيَعِيشُ عِيشَةً حَلَالًا.

قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَاحِدَةً أَيْ فَالْزَمُوا زَوْجًا وَاحِدَةً، أَوْ أَمْسِكُوا زَوْجًا وَاحِدَةً مَعَ الْعَدْلِ - وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مُتَزَوِّجًا كَثِيرَاتٍ - أَوِ الْزَمُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاكْتَفُوا بِالتَّسَرِّي بِهِنَّ بِغَيْرِ شَرْطٍ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أَيْ أَقْرَبُ إِلَى عَدَمِ الْعَوْلِ، وَهُوَ الْجَوْرُ، فَإِنَّ الْعَدْلَ بَيْنَ الْإِمَاءِ فِي الْفِرَاشِ غَيْرُ وَاجِبٍ إِذْ لَا حَقَّ لَهُنَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَهُنَّ الْحَقُّ فِي الْكِفَايَةِ بِالْمَعْرُوفِ. وَهَذَا لَا يُفِيدُ حِلَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي التَّمَتُّعِ بِالْجَوَارِي الْمَمْلُوكَاتِ بِحَقٍّ، أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، مَهْمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ كَمَا شُوهِدَ، وَلَا يَزَالُ يُشَاهَدُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ إِلَى الْآنَ انْتَهَى كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي سَمِعْتُ مِنْهُ أَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الزِّيَادَةِ فِي الْإِمَاءِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَلَكِنَّنِي لَمْ أَرَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عِنْدِي.

أَقُولُ: هَذَا، وَإِنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ خِلَافُ الْأَصْلِ الطَّبِيعِيِّ فِي الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ يَكُونُ بِهَا كَمَا تَكُونُ بِهِ زَوْجًا، وَلَكِنَّهُ ضَرُورَةٌ تَعْرِضُ لِلِاجْتِمَاعِ، وَلَاسِيَّمَا فِي الْأُمَمِ الْحَرْبِيَّةِ كَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَهُوَ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، وَاشْتُرِطَ فِيهِ عَدَمُ الْجَوْرِ، وَالظُّلْمِ. وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبَاحِثُ أُخْرَى كَبَحْثِ حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ، وَالْعَدَدِ، وَبَحْثِ إِمْكَانِ مَنْعِ الْحُكَّامِ لِمَفَاسِدِ التَّعَدُّدِ بِالتَّضْيِيقِ فِيهِ إِذَا عَمَّ ضَرَرُهُ كَمَا هِيَ الْحَالُ فِي الْبِلَادِ

الْمِصْرِيَّةِ كَمَا يُقَالُ، فَإِنَّ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ يَكْثُرُونَ هُنَا مَا لَا يَكْثُرُونَ فِي بِلَادِ الشَّامِ، وَبِلَادِ التُّرْكِ مَعَ كَوْنِ الْأَخْلَاقِ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْهَا هُنَاكَ فِي الْغَالِبِ. وَلَنَا فِي حِكْمَةِ التَّعَدُّدِ فَتْوَى نَشَرْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ السَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ هَذَا نَصُّهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>