للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْمَعْنَى الْمُتَبَادَرُ: فَلَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَشْيَاءِ وَتَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهَا (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) بِإِطْفَاءِ نَارِهِمْ بِنَحْوِ مَطَرٍ شَدِيدٍ نَزَلَ عَلَيْهَا، أَوْ عَاصِفٍ مِنَ الرِّيحِ جَرَفَهَا وَبَدَّدَهَا، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَثَلِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَضْرُوبِ فِيهِمُ الْمَثَلُ مِنَ الْعَرَبِ، فَالنُّورُ نُورُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَضَاءَ قُلُوبَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (٣٩: ٢٢) وَذَهَابُهُ فِي الدُّنْيَا مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ أَوِ الْجَزْمِ بِالْكُفْرِ حَتَّى لَمْ يَعُودُوا يُدْرِكُونَ مَنَافِعَهُ وَفَضَائِلَهُ، وَأَمَّا ذَهَابُهُ بَعْدَهَا فَأَوَّلُهُ الْمَوْتُ، فَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَرَى بِالْمَوْتِ أَوْ قُبَيْلَ خُرُوجِ رُوحِهِ مَنْزِلَتَهُ بَعْدَهَا، وَبَعْدَهُ ظُلْمَةُ الْقَبْرِ أَيْ حَيَاةُ الْبَرْزَخِ، وَبَعْدَهَا مَوْقِفُ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٥٧: ١٣ - ١٤) إِلَخْ. الْآيَةِ التَّالِيَةِ (١٥) ، وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَصْدَقُ بَيَانٍ لِلْمُرَادِ مِنْ ذَهَابِ اللهِ بِنُورِهِمْ، وَكَوْنِهِ لَيْسَ إِجْبَارًا لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَا عِبَارَةً عَنْ سَلْبِهِمُ التَّمَكُّنَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْبِيرٌ عَنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَاقِبَةِ فِتْنَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ إِلَخْ.

وَقَالَ شَيْخُنَا فِي تَطْبِيقِ الْمَثَلِ عَلَى الْيَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا مَعْنَاهُ: اسْتَوْقَدُوا بِفِطْرَتِهِمُ السَّلِيمَةِ نَارَ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِتَصْدِيقِهِمْ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُمْ بُرُوقُهَا وَوَضَحَ لَهُمْ طَرِيقُهَا، فَاجَأَتْهُمُ التَّقَالِيدُ الْمَوْرُوثَةُ، وَبَاغَتَتْهُمُ الْعَادَاتُ الْمَأْلُوفَةُ، وَشَغَلَهُمْ مَا يَتَوَهَّمُونَهُ فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، وَمَا يَتَوَقَّعُونَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا مِنَ الْمَصَارِعِ وَالْمَفَاسِدِ عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِذَلِكَ الضَّوْءِ عَلَى سُلُوكِ ذَلِكَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ نَهَارِهِ الْمُشْرِقِ وَظُلُمَاتِ لَيْلِهَا الْبَهِيمِ، بَلِ اسْتَبْدَلُوا هَذَا الدَّيْجُورَ بِذَلِكَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى ذَهَابِ نُورِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) وَلَمْ يُقَلْ: ذَهَبَ نُورُهُمْ، أَوْ أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ، لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ مَعَهُمْ بِمَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ عِنْدَمَا اسْتَوْقَدُوا النَّارَ فَأَضَاءَتْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَائِمِينَ عَلَى سَبِيلِ فِطْرَتِهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا، مُعْتَقِدِينَ صِحَّةَ شَرِيعَتِهِ الَّتِي دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا، وَبِأَنَّهُ تَخَلَّى عَنْهُمْ عِنْدَمَا نَكَبُوا عَنْ تِلْكَ السَّبِيلِ، وَعَافُوا ذَلِكَ الْمَوْرِدَ السَّلْسَبِيلَ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَوْقِدَ الْمُسْتَرْشِدَ تَكُونُ لَهُ حَالَةٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى مَرْضِيَةٌ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَقَصْدِ اتِّبَاعِ هُدَاهُ، وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهِ الَّذِي وَهَبَهُ إِيَّاهُ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ وَذَهَبَ بِنُورِهِ، وَإِذَا ذَهَبَ النُّورُ لَا يَبْقَى إِلَّا الظُّلْمَةُ، وَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ فِي ظُلْمَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، مُتَعَدِّدَةٌ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ التَّقَالِيدِ الَّتِي فُتِنُوا بِهَا، وَبِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ الَّتِي أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>