أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - فِيمَا قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَوَائِلِ السُّورَةِ بِإِعْطَاءِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ أَمْوَالَهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَ سَفِيهًا لَا يُحْسِنُ تَثْمِيرَ الْمَالِ وَلَا حِفْظَهُ، فَيُثَمِّرُهُ لَهُ الْوَلِيُّ وَيَحْفَظُهُ لَهُ إِلَى أَنْ يَرْشُدَ، وَنَهَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَبْطَلَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ تَوْرِيثِهِمْ. فَنَاسَبَ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ أَحْكَامَ الْمِيرَاثِ وَفَرَائِضِهِ، فَكَانَ بَيَانُهُ فِي هَاتَيْنِ، وَآيَةٌ فِي آخِرِ السُّورَةِ، فَهَذِهِ هِيَ الْفَرَائِضُ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْعَمَلُ بَعْدَ نُزُولِهَا فَبَطَلَ بِهَا، وَبِقَوْلِهِ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [٨: ٧٥] مَا كَانَ مِنْ نِظَامِ التَّوَارُثِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
أَمَّا الْجَاهِلِيَّةُ فَكَانَتْ أَسْبَابُ الْإِرْثِ عِنْدَهَا ثَلَاثَةً:
أَحَدُهَا: النَّسَبُ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ، وَيُقَاتِلُونَ الْأَعْدَاءَ، وَيَأْخُذُونَ الْغَنَائِمَ لَيْسَ لِلضَّعِيفَيْنِ: الطِّفْلِ وَالْمَرْأَةِ مِنْهُ شَيْءٌ.
ثَانِيهَا: التَّبَنِّي، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَتَبَنَّى وَلَدَ غَيْرِهِ فَيَرِثُهُ،
وَيَكُونُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَبْطَلَ اللهُ التَّبَنِّيَ بِآيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَنَفَّذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الشَّاقِّ، وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِمُطَلَّقَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الَّذِي كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ.
ثَالِثُهَا: الْحَلِفُ وَالْعَهْدُ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي، وَأَرِثُكَ، وَتَطْلُبُ بِي وَأَطْلُبُ بِكَ. فَإِذَا تَعَاهَدَا عَلَى ذَلِكَ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ كَانَ لِلْحَيِّ مَا اشْتُرِطَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَبْطُلْ إِلَّا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَدْ جَعَلَ التَّوَارُثَ أَوَّلًا بِالْهِجْرَةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ، فَكَانَ الْمُهَاجِرُ يَرِثُ الْمُهَاجِرَ الْبَعِيدَ، وَلَا يَرِثُهُ غَيْرُ الْمُهَاجِرِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَاخِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَقَدْ نُسِخَ هَذَا، وَذَاكَ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نُزُولِ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ أَنَّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ ثَلَاثَةٌ: النَّسَبُ، وَالصِّهْرُ، وَالْوَلَاءُ، وَحِكْمَةُ مَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّ ذَوِي الْقُرْبَى، وَالرَّحِمِ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لِقِلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى التَّنَاصُرِ، وَالتَّكَافُلِ بَيْنَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَتَرَكَ ذُو الْمَالِ مِنْهُمْ فِيهَا.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ قَدْ نُسِخَتْ أَيْضًا بِآيَاتِ الْمِيرَاثِ، وَلَكِنَّكَ تَرَى أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُفَصِّلَتَيْنِ لِأَحْكَامِ الْإِرْثِ قَدْ جَعَلَتَا الْوَصِيَّةَ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِرْثِ، وَأَكَّدَتْ ذَلِكَ بِتَكْرَارِهِ عِنْدَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَرَائِضِ فِيهَا، وَتَرَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقْرَبِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ تَأْكِيدٌ يُنَافِي النَّسْخَ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [٢: ١٨٠] الْآيَاتِ [
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute