مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ التَّمَادِي فِي الذُّنُوبِ إِذَا هُوَ تَابَ قُبَيْلَ الْمَوْتِ وَلَوْ بِسَاعَةٍ ; فَإِنَّ حَمْلَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُخَالِفٌ لِهَدْيِ كِتَابِ اللهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا، وَلِسُنَنِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ نَفْسَهُ تَتَدَنَّسُ بِالذُّنُوبِ بِالتَّدْرِيجِ، فَإِذَا طَالَ الْأَمَدُ عَلَى مُزَاوَلَتِهَا لَهَا تَتَمَكَّنُ فِيهَا، وَتَرْسَخُ، فَلَا تَزُولُ إِلَّا بِتَزْكِيَتِهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ
فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ يُنَاسِبُ زَمَنَ الدَّنَسِ مَعَ تَرْكِ أَسْبَابِ الدَّنَسِ، وَأَمَّا التَّرْكُ وَحْدَهُ فَلَا يَكْفِي، كَمَا إِذَا وَرَدَتِ الْأَقْذَارُ، وَالْأَدْنَاسُ الْحِسِّيَّةُ عَلَى ثَوْبٍ زَمَنًا طَوِيلًا، فَإِنَّهُ لَا يُنَظَّفُ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِهَا عَنْهُ. عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ إِذَا تَكَرَّرَتْ تَصِيرُ عَادَاتٍ تَمْلِكُ عَلَى النَّفْسِ أَمْرَهَا حَتَّى تَصِيرَ التَّوْبَةُ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ وَأَشَقِّهَا ; لِأَنَّهَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنِ اقْتِلَاعِ الْمَلَكَاتِ الَّتِي تَكَيَّفَ بِهَا الْمَجْمُوعُ الْعَصَبِيُّ، فَمَا أَخْسَرَ صَفْقَةَ الْمُسَوِّفِينَ الَّذِينَ يَغْتَرُّونَ بِكَلَامِ أَسْرَى الْعِبَارَاتِ وَغَيْرِ الْمُفَسِّرِينَ!
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ذَكَرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ التَّوْبَةَ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَهَا، وَحَالَهَا تَرْغِيبًا فِيهَا، وَتَنْفِيرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا شَدَّدَ فِي شَرْطِ قَبُولِهَا، وَفِيهِ إِرْشَادٌ لِأَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ مَعَ الْعُصَاةِ فِي مُعَاقَبَتِهِمْ، وَتَأْدِيبِهِمْ، فَإِنَّهُ فَرَضَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مُعَاقَبَةَ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ، وَأَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّنْ تَابَ بِشَرْطِ إِصْلَاحِ الْعَمَلِ. وَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرْحٌ لِذَلِكَ الْإِصْلَاحِ أَيْ إِنْ تَابُوا مِثْلَ هَذِهِ التَّوْبَةِ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، وَكُفُّوا عَنْ عِقَابِهِمْ.
وَيَذْكُرُونَ هَاهُنَا مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاحِ عَلَيْهِ - تَعَالَى -. وَالْقَوْلُ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ قَبُولَ هَذِهِ التَّوْبَةِ عَلَى اللهِ - تَعَالَى - لَيْسَ بِإِيجَابِ مُوجِبٍ لَهُ سُلْطَةٌ يُوجِبُ بِهَا عَلَى اللهِ، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ! وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَمَالِ الَّذِي أَوْجَبَهُ - تَعَالَى - عَلَى نَفْسِهِ بِمَشِيئَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا ظَاهِرُهُ وُجُوبُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عَلَى اللهِ قَدْ جَاءَتْ عَلَى طَرِيقِ الْعَرَبِ فِي التَّخَاطُبِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ مَالَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَلَكِنْ بِإِيجَابِ اللهِ - تَعَالَى - لَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَظُنَّ عَاقِلٌ أَنَّ قَانُونًا يَحْكُمُ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ. فَجُعِلَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيًّا ظَاهِرًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ.
وَالسُّوءُ هُوَ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ، وَالْجَهَالَةُ: تَصْدُقُ بِمَعْنَى السَّفَاهَةِ، وَبِمَعْنَى الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعِلْمِ، فَالسَّفَاهَةُ إِنَّمَا سُمِّيَتْ سَفَاهَةً لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَجْهَلُ عَاقِبَتَهَا الرَّدِيئَةَ، أَوْ يَجْهَلُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِالْجَهَالَةِ هُنَا: الْعِصْيَانُ، وَالْمُخَالَفَةُ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجَهَالَةِ لِبَيَانِ قُبْحِهِ، وَلِتَضَمُّنِهِ لِلْجَهَالَةِ، وَتَنْزِيلِ الْعَاصِي مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ التَّامِّ بِمِقْدَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَمَلِ السُّوءِ مِنَ الْعِقَابِ لَا تَعَمُّدُ الْعِصْيَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاقِصَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الذُّنُوبِ، وَوَجْهِ تَرَتُّبِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا، وَدَرَجَةِ ذَلِكَ الْعِقَابِ وَتَحَتُّمِهِ يَقَعُ فِي الذَّنْبِ،
وَيَعْمَلُ السُّوءَ بِاخْتِيَارِهِ غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَمِلَ مَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالنَّفْعُ لِنَفْسِهِ، كَاللِّصِّ يَعْلَمُ أَنَّ السَّرِقَةَ مُحَرَّمَةٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَيْهَا حَتْمٌ ; لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute