للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَمَّا حَقِيقَةُ الْبَرْقِ وَالرَّعْدِ وَالصَّاعِقَةِ وَأَسْبَابُ حُدُوثِهَا فَلَيْسَ مِنْ مَبَاحِثِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الطَّبِيعَةِ - أَيِ الْخَلِيقَةِ - وَحَوَادِثِ الْجَوِّ الَّتِي فِي اسْتِطَاعَةِ النَّاسِ مَعْرِفَتُهَا بِاجْتِهَادِهِمْ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَحْيِ، وَإِنَّمَا تُذْكَرُ الظَّوَاهِرُ الطَّبِيعِيَّةُ فِي الْقُرْآنِ لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَصَرْفِ الْعَقْلِ إِلَى الْبَحْثِ الَّذِي يَقْوَى بِهِ الْفَهْمُ وَالدِّينُ، وَالْعِلْمُ بِالْكَوْنِ يَنْمَى وَيَضْعُفُ فِي النَّاسِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ. فَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَعْتَقِدُونَ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ أَنَّ الصَّوَاعِقَ تَحْدُثُ مِنْ أَجْسَامٍ مَادِّيَّةٍ، لِمَا كَانَ يَشُمُّونَهُ فِي مَحَلِّ نُزُولِهَا مِنْ رَائِحَةِ الْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ، وَرَجَعُوا عَنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ فِي زَمَنٍ آخَرَ مُلَاحِظِينَ أَنَّ تِلْكَ الرَّائِحَةَ لَا تَكُونُ دَائِمًا فِي مَحَلِّ الصَّاعِقَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ فِي الْكَوْنِ سَيَّالًا يُسَمُّونَهُ الْكَهْرَبَاءَ، مِنْ آثَارِهِ مَا تَرَوْنَ مِنَ التِّلِغْرَافِ وَالتِّلِيفُونِ وَالتُّرَامْوَايْ، وَهَذِهِ الْأَضْوَاءُ السَّاطِعَةُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ، مِنْ غَيْرِ شُمُوعٍ وَلَا زَيْتٍ وَلَا ذُبَالٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّصَالِ سِلْكَيْنِ دَقِيقَيْنِ كَالْخُيُوطِ الَّتِي تُخَاطُ بِهَا الثِّيَابُ، أَحَدُهُمَا: يَحْمِلُ أَوْ يُوَصِّلُ السَّيَّالَ الْكَهْرَبَائِيَّ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْمُوجَبَ، وَالْآخَرُ: يُوَصِّلُ السَّيَّالِ الْمُسَمَّى بِالسَّالِبِ، وَبِاتِّصَالُ السِّلْكَيْنِ يَتَوَلَّدُ النُّورُ مِنْ تَلَاقِي السَّيَّالَيْنِ، وَبِانْقِطَاعِهِمَا أَوِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا يَنْفَصِلُ السَّيَّالَانِ، فَيَنْقَطِعُ الضَّوْءُ مِنَ الْمَصَابِيحِ وَالْحَرَكَةِ مِنَ الْآلَاتِ،

وَالْكَهْرَبَائِيَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالْبَرْقُ فِي السَّحَابِ يَتَوَلَّدُ مِنَ اتِّصَالِ نَوْعَيْهَا: الْمُوجَبِ، وَالسَّالِبِ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَتَوَلَّدُ فِي الْأَرْضِ بِعَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَقَدِ اسْتَنْزَلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ قَبَسَ الصَّاعِقَةِ مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالصَّاعِقَةُ مِنْ أَثَرِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَهِيَ تَفْرِيغُ السَّحَابِ طَائِفَةً مِنْهَا فِي مَكَانٍ لِجَاذِبٍ فِي الْأَرْضِ يَجْذِبُهُ، وَكَثِيرًا مَا حَصَلَ الصَّعْقُ لِعُمَّالِ التِّلِغْرَافِ، لِمَا بَيْنَ السَّحَابِ وَالْأَسْلَاكِ مِنَ الْجَاذِبِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ بِالسَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ لِلصَّوَاعِقِ هَدَاهُمْ إِلَى حِفْظِ الْأَبْنِيَةِ الشَّاهِقَةِ مِنْهَا بِاتِّخَاذِ الْقَضِيبِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُسَمَّى قَضِيبَ الصَّاعِقَةِ، فَلَا تَنْزِلُ الصَّوَاعِقُ عَلَى بِنَاءٍ رُفِعَ فَوْقَهُ هَذَا الْقَضِيبُ، وَلَا مَجَالَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلتَّطْوِيلِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُطْلَبُ مِنْ فُنُونِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا، فَلْنَعُدْ إِلَى بَيَانِ الْمَثَلِ.

اسْتَحْضِرْ حَالَ قَوْمٍ مُشَاةٍ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ نَزَلَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَا أَقْبَلَ ظَلَامُ اللَّيْلِ صَيِّبٌ مِنَ السَّمَاءِ قَصَفَتْ رُعُودُهُ، وَلَمَعَتْ بُرُوقُهُ، وَتَصَوَّرْ كَيْفَ يَهْوُونَ بِأَصَابِعِهِمْ إِلَى آذَانِهِمْ كُلَّمَا حَدَثَ قَاصِفٌ مِنَ الرَّعْدِ لِيَدْفَعُوا شِدَّةَ وَقْعِهِ بِسَدِّ مَنَافِذِ السَّمْعِ بِرُءُوسِ الْأَنَامِلِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأَنَامِلِ بِالْأَصَابِعِ هَذَا التَّعْبِيرَ الْمَجَازِيَّ اللَّطِيفَ لِلْإِشْعَارِ بِشِدَّةِ عِنَايَتِهِمْ بِسَدِّ آذَانِهِمْ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي إِدْخَالِ أَنَامِلِهِمْ فِي صَمَالِيخِهَا، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُحَاوِلُ بِمَا دَهَمَهُ مِنَ الْخَوْفِ أَنْ يَغْرِسَ إِصْبَعَهُ كُلَّهَا فِي أُذُنِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلصَّوْتِ مَنْفَذٌ إِلَى سَمْعِهِ، لِمَا يَحْذَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْمَوْتِ الزُّؤَامِ، وَمُعَاجَلَةِ الْحِمَامِ، وَهَذَا هُوَ الْجُبْنُ الْخَالِعُ، وَمُنْتَهَى حُدُودِ الْحَمَاقَةِ؛ لِأَنَّ سَدَّ الْآذَانِ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>