للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَحْكَمَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الْمِيثَاقَ هُوَ مَا أَخَذَ اللهُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ بِقَوْلِهِ: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [٢: ٢٢٩] قَالَ: وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَيُقَالُ: اللهُ عَلَيْكَ لَتُمْسِكَنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ لَتُسَرِّحَنَّ بِإِحْسَانٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ كَلِمَةُ النِّكَاحِ، أَيْ صِيغَةُ الْعَقْدِ الَّتِي حَلَّتْ بِهِ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - بِهِ الرِّجَالَ مِنْ مُعَاشَرَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا الْمِيثَاقَ الَّذِي أَخَذَهُ النِّسَاءُ مِنَ الرِّجَالِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِمَعْنَى الْإِفْضَاءِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ شُئُونِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَهُوَ مَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [٣٠: ٢١] فَهَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْفِطْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ هِيَ أَقْوَى مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ فِي تَرْكِ أَبَوَيْهَا، وَإِخْوَتِهَا، وَسَائِرِ أَهْلِهَا، وَالرِّضَا بِالِاتِّصَالِ بِرَجُلٍ غَرِيبٍ عَنْهَا تُسَاهِمُهُ السَّرَّاءَ وَالضَّرَّاءَ، فَمِنْ آيَاتِ اللهِ - تَعَالَى - فِي هَذَا الْإِنْسَانِ أَنْ تَقْبَلَ الْمَرْأَةُ بِالِانْفِصَالِ مِنْ أَهْلِهَا ذَوِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهَا، لِأَجْلِ الِاتِّصَالِ بِالْغَرِيبِ، تَكُونُ زَوْجًا لَهُ وَيَكُونُ زَوْجًا لَهَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ وَيَسْكُنُ إِلَيْهَا، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ أَقْوَى مِنْ كُلِّ مَا يَكُونُ بَيْنَ ذَوِي الْقُرْبَى، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْدِمُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ وَتَرْضَى بِأَنْ تَتْرُكَ جَمِيعَ أَنْصَارِهَا وَأَحِبَّائِهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا إِلَّا وَهِيَ وَاثِقَةٌ بِأَنْ تَكُونَ صِلَتُهَا بِهِ أَقْوَى مَنْ كُلِّ صِلَةٍ، وَعِيشَتُهَا مَعَهُ أَهْنَأَ مَنْ كُلِّ عِيشَةٍ، وَهَذَا مِيثَاقٌ فِطْرِيٌّ مِنْ أَغْلَظِ الْمَوَاثِيقِ، وَأَشَدِّهَا إِحْكَامًا، وَإِنَّمَا يَفْقَهُ هَذَا الْمَعْنَى الْإِنْسَانُ الَّذِي يُحِسُّ إِحْسَاسَ الْإِنْسَانِ، فَلْيَتَأَمَّلْ تِلْكَ الْحَالَةَ الَّتِي يُنْشِئُهَا اللهُ - تَعَالَى - بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ يَجِدُ أَنَّ

الْمَرْأَةَ أَضْعَفُ مِنَ الرَّجُلِ، وَأَنَّهَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ تُسَلِّمُ نَفْسَهَا إِلَيْهِ، مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى هَضْمِ حُقُوقِهَا، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَعْتَمِدُ فِي هَذَا الْإِقْبَالِ وَالتَّسْلِيمِ؟ وَمَا هُوَ الضَّمَانُ الَّذِي تَأْخُذُهُ عَلَيْهِ، وَالْمِيثَاقُ الَّذِي تُوَاثِقُهُ بِهِ؟ مَاذَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الْمَرْأَةِ إِذَا قِيلَ لَهَا: إِنَّكِ سَتَكُونِينَ زَوْجًا لِفُلَانٍ. إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ يَخْطُرُ فِي بَالِهَا عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ، أَوِ التَّفَكُّرِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْ عَنْهُ هُوَ أَنَّهَا سَتَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِنْ حَالِهَا عِنْدَ أَبِيهَا وَأُمِّهَا، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِشَيْءٍ اسْتَقَرَّ فِي فِطْرَتِهَا وَرَاءَ الشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ: هُوَ عَقْلٌ إِلَهِيٌّ، وَشُعُورٌ فِطْرِيٌّ أَوْدَعَ فِيهَا مَيْلًا إِلَى صِلَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ تَعْهَدْهَا مِنْ قَبْلُ، وَثِقَةً مَخْصُوصَةً لَا تَجِدُهَا فِي أَحَدٍ مِنَ الْأَهْلِ، وَحُنُوًّا مَخْصُوصًا لَا تَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا الْبَعْلَ، فَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ الَّذِي أَخَذَتْهُ مِنَ الرَّجُلِ بِمُقْتَضَى نِظَامِ الْفِطْرَةِ الَّذِي يُوَثَّقُ بِهِ مَا لَا يُوَثَّقُ بِالْكَلَامِ الْمُوَثَّقِ بِالْعُهُودِ وَالْأَيْمَانِ، وَبِهِ تَعْتَقِدُ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا بِالزَّوَاجِ قَدْ أَقْبَلَتْ عَلَى سَعَادَةٍ لَيْسَ وَرَاءَهَا سَعَادَةٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ لَمْ تَرَ مَنْ رَضِيَتْ بِهِ زَوْجًا، وَلَمْ تَسْمَعْ لَهُ مِنْ قَبْلُ كَلَامًا، فَهَذَا مَا عَلَّمَنَا اللهُ - تَعَالَى - إِيَّاهُ، وَذَكَّرَنَا بِهِ - وَهُوَ مَرْكُوزٌ فِي أَعْمَاقِ نُفُوسِنَا - بِقَوْلِهِ: إِنَّ النِّسَاءَ قَدْ أَخَذْنَ مِنَ الرِّجَالِ بِالزَّوَاجِ مِيثَاقًا غَلِيظًا، فَمَا هِيَ قِيمَةُ مَنْ لَا يَفِي بِهَذَا الْمِيثَاقِ، وَمَا هِيَ مَكَانَتُهُ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ؟ انْتَهَى. بِتَصَرُّفٍ مَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>