للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي النَّاسِ الْمُنَادُونَ هُنَا وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الْقَلْبَ وَيَصْرِفُ النَّفْسَ فِي الْأَعْمَالِ، وَهُوَ الْمَقْبُولُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُمْ آخِذُونَ بِتَقَالِيدَ ظَاهِرِيَّةٍ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ الْأَثَرُ الصَّالِحُ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَهُمْ يُخَادِعُونَ اللهَ تَعَالَى بِالتَّلَبُّسِ بِبَعْضِ صُوَرِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَ ((إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)) وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا لَا يَزَالُ فِي الصِّنْفِ الرَّابِعِ مِنْ أَصْنَافِ الْبَشَرِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ.

(الْوَجْهُ الثَّانِي) : - وَهُوَ الرَّاجِحُ - أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي أَصْنَافِ النَّاسِ هَذَا الصِّنْفَ الَّذِي احْتَقَرَ أَفْرَادُهُ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَاسْتَعْظَمُوهَا وَأَكْبَرُوهَا عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، فَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَجَلِّ الْمَزَايَا الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَجَّلُوا سَلَفَهُمْ حَتَّى رَفَعُوهُمْ إِلَى مَرْتَبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، خَاطَبَ النَّاسَ عَامَّةً بِأَنْ يَعْبُدُوهُ مُلَاحَظِينَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَالِقِيَّةِ الَّتِي تَشْمَلُهُمْ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ السَّلَفِ، فَتَنْظِمُهُمْ جَمِيعًا فِي سِلْكِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْخَالِقِ تَعَالَى شَأْنُهُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ الصِّنْفُ الْخَاسِرُ الْكَفُورُ بِنِعَمِ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ وَهِدَايَةِ الدِّينِ، إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوا عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، بَلِ اكْتَفَوْا بِتَقْلِيدِ بَعْضِ

رُؤَسَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى فَهْمِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى غَيْرُهُمْ، كَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَخَاطَبَ بِهَا نَفَرًا مَعْدُودِينَ فِي وَقْتٍ مَحْدُودٍ وَلَمْ يَجْعَلْهُ هِدَايَةً عَامَّةً لِلْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا أَلْزَمَ سَائِرَ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ الِاكْتِفَاءَ بِاتِّبَاعِ أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِ أَتْبَاعِهِمْ وَهَلُمَّ جَرَّا، ثُمَّ تَرَكُوا أَتْبَاعَهُمُ اتِّكَالًا عَلَى شَفَاعَتِهِمْ، وَاكْتِفَاءً بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِمْ، وَزَعْمًا أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُمْ مَا لَا يُعْطِي مِثْلَهُ لِأَحَدٍ سِوَاهُمْ وَإِنْ عَمِلُوا مِثْلَ عَمَلِهِمْ، تَعَالَى الله عَنِ الظُّلْمِ وَالْمُحَابَاةِ، وَهُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي وَذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

هَذَا النِّدَاءُ الْإِلَهِيُّ الْمُشْعِرُ بِأَنَّ نِسْبَةَ النَّاسِ الْأَوَّلِينَ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَنِسْبَةِ الْآخَرِينَ وَاحِدَةٌ، هُوَ الْخَالِقُ وَهُمُ الْمَخْلُوقُونَ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِهَا أَجْمَعُونَ، حُجَّةٌ عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّةِ ذَلِكَ الصِّنْفِ مِنْ قَبْلِنَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>