للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَيْسَ بِإِيجَابٍ مِنْ ذِي سُلْطَةٍ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ تَعَالَى، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تَعْلُو تَأْوِيلَ الْمُؤَوِّلِينَ وَجَدَلَ الْمُجَادِلِينَ، وَكَذَلِكَ حُبُوطُ الْأَعْمَالِ بِالْكُفْرِ، وَإِحَاطَةُ الْمَعَاصِي ثَابِتَةٌ فِي الْقُرْآنِ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمَارِيَ فِيهَا مِرَاءً ظَاهِرًا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (٩: ١٧) ، بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ٢: ٨١] ، كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٣: ١٤) ، عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ هُنَا لَا يُوَضِّحُ مَعْنَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَفِيهِ مَعْنَى تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ.

وَهَذِهِ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ، فَإِذَا زَكَتِ النَّفْسُ بِغَلَبَةِ تَأْثِيرِ الطَّاعَاتِ فِيهَا عَلَى تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي أَفْلَحَتْ وَارْتَفَعَتْ إِلَى عِلِّيِّينَ، وَإِذَا كَانَ الْعَكْسُ خَسِرَتْ وَحَبِطَ مَا عَمِلَتْ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (٩١: ٩، ١٠) ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَأَنَّ تَكْفِيرَ

الْحَسَنَاتِ وَإِذْهَابَهَا لِلسَّيِّئَاتِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ، وَلَكِنَّ تَكْفِيرَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ يَحْتَاجُ إِلَى إِيضَاحٍ، لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ يُضَادُّ أَثَرَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهَا وَيُكَفِّرَهَا؟

قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ مَبَاحِثِ التَّوْبَةِ، وَهُوَ مَا عَنْهُ التَّوْبَةُ، أَيِ الذُّنُوبُ مَا نَصُّهُ: " اجْتِنَابُ الْكَبِيرَةِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ الصَّغِيرَةَ إِذَا اجْتَنَبَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنَ امْرَأَةٍ، وَمِنْ مُوَاقَعَتِهَا فَيَكُفُّ نَفْسَهُ عَنِ الْوِقَاعِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى نَظَرٍ أَوْ لَمْسٍ، فَإِنَّ مُجَاهَدَةَ نَفْسِهِ بِالْكَفِّ عَنِ الْوِقَاعِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي تَنْوِيرِ قَلْبِهِ مِنْ إِقْدَامِهِ عَلَى النَّظَرِ فِي إِظْلَامِهِ، فَهَذَا مَعْنَى تَكْفِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ عِنِّينًا، أَوْ لَمْ يَكُنِ امْتِنَاعُهُ إِلَّا بِالضَّرُورَةِ لِلْعَجْزِ، أَوْ كَانَ قَادِرًا وَلَكِنِ امْتَنَعَ لِخَوْفِ أَمْرٍ آخَرَ، فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّكْفِيرِ أَصْلًا، وَكُلُّ مَنْ لَا يَشْتَهِي الْخَمْرَ بِطَبْعِهِ وَلَوْ أُبِيحَ لَهُ لَمَا شَرِبَهُ فَاجْتِنَابُهُ لَا يُكَفِّرُ عَنْهُ الصَّغَائِرَ الَّتِي هِيَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ كَسَمَاعِ الْمَلَاهِي وَالْأَوْتَارِ.

نَعَمْ مَنْ يَشْتَهِي الْخَمْرَ وَسَمَاعَ الْأَوْتَارِ فَيُمْسِكُ نَفْسَهُ بِالْمُجَاهِدَةِ عَنِ الْخَمْرِ وَيُطْلِقُهَا فِي السَّمَاعِ فَمُجَاهَدَتُهُ النَّفْسَ بِالْكَفِّ رُبَّمَا تَمْحُو عَنْ قَلْبِهِ الظُّلْمَةَ الَّتِي ارْتَفَعَتْ إِلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَةِ السَّمَاعِ.

فَكُلُّ هَذِهِ أَحْكَامٌ أُخْرَوِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْضُهَا مَحَلَّ الشَّكِّ، وَتَكُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَلَا يُعْرَفُ تَفْصِيلُهَا إِلَّا بِالنَّصِّ، وَلَمْ يَرِدِ النَّصُّ بَعْدُ وَلَا حَدَّ جَامِعٌ، بَلْ وَرَدَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَاتٍ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الصَّلَاةُ إِلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةٌ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إِشْرَاكٌ بِاللهِ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ " قِيلَ: مَا تَرْكُ السُّنَّةِ؟ قَالَ: الْخُرُوجُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ أَنْ يُبَايِعَ

<<  <  ج: ص:  >  >>