الْخَاصِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُكُمْ، إِمَّا لِجَهْلِكُمْ بِهِ أَوْ بِطَرْقِهِ وَأَسْبَابِهِ، وَإِمَّا لِعَجْزِكُمْ عَنْهُ، كَمَنْ يَجْتَهِدُ فِي الزِّرَاعَةِ أَوِ التِّجَارَةِ فَيُدْلِي إِلَيْهَا بِأَسْبَابِهَا الَّتِي يَنَالُهَا كَسْبُهُ، وَيَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُتِمَّ فَضْلَهُ بِالْمَطَرِ الَّذِي يَنْمُو بِهِ الزَّرْعُ، وَاعْتِدَالِ الرِّيحِ لِيَسْلَمَ الْفُلْكُ، وَهَذَا مِمَّا يَجْهَلُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْجِزُ عَنْهُ.
وَمِنْ هُنَا تَفْهَمُ حِكْمَةَ تَذْيِيلِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، فَهُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ بِالْإِلْهَامِ وَبِآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ كَيْفَ يَطْلُبُ الْمَنَافِعَ وَالْفَضْلَ، وَكُلَّمَا سَأَلَهُ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالِاسْتِعْدَادِ وَالْعَمَلِ زَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَخَزَائِنُ جُودِهِ لَا تَنْفَدُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (١٥: ٢١) ، وَلَا يَزَالُ الْعَامِلُونَ يَسْتَزِيدُونَهُ وَلَا يَزَالُ يُنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِهِ مَا يَفْضُلُونَ بِهِ الْقَاعِدِينَ الْبَطَّالِينَ، وَقَدْ بَلَغَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْفَضْلِ حَدًّا بَعِيدًا جِدًّا ; حَتَّى كَادَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ بَعْضِ الشُّعُوبِ وَبَعْضِهِمُ الْآخَرِ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ بَعْضِ الْحَيَوَانِ وَبَعْضِ الْإِنْسَانِ.
أَلَا أُذُنٌ تَسْمَعُ وَعَيْنٌ تُبْصِرُ! ! كَيْفَ يَسْتَوْلِي الْعَدَدُ الْقَلِيلُ مِنْ أَهْلِ الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ
عَلَى أُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ أَهْلِ الْجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِخِدْمَتِهِمْ كَمَا يُسَخِّرُونَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْحَيَوَانِ؟ ! أَيُنْكِرُ أَصْحَابُ النُّفُوذِ الصُّورِيِّ وَالنُّفُوذِ الْمَعْنَوِيِّ مِنْ أَهْلِ الْجَنُوبِ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي حَالُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ طَلَبِ فَضْلِ اللهِ بِالْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالثَّرْوَةِ وَالسِّيَاسَةِ تَارَةً بِاسْمِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ، وَأُخْرَى بِاسْمِ الْعُبُودِيَّةِ لِلْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ، قَدْ خَرَجَتِ السُّلْطَةُ عَلَيْهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَمَا هَذَا الْقَلِيلُ بِالَّذِي يَبْقَى لَهُمْ، أَيُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مِنَ الْمُلْكِ وَالْعِزَّةِ وَالثَّرْوَةِ وَالْعِلْمِ مِثْلُ مَا لِأَهْلِ الشَّمَالِ، أَوَعَيْنُ مَا لِأَهْلِ الشَّمَالِ، أَيَنْسَوْنَ أَنَّهُمْ كَانُوا فَوْقَهُمْ أَيَّامَ كَانُوا هُمْ أَصْحَابَ أَهْلِ الْيَمِينِ، أَيُجِيزُ لَهُمُ الْإِسْلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا الْفَضْلَ الَّذِي أَصَابُوهُ بِكَسْبِهِمْ أَنْ يُضَيِّعُوهُ، ثُمَّ يُقْنِعُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي؟ ! فَإِلَى مَتَى هَذَا الْجَهْلُ وَهَذَا الْغُرُورُ؟ !
إِنَّهُمْ حَالُوا بَيْنَ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ فَضْلِ اللهِ فِي الدِّينِ كَمَا حَالُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ فَضْلِهِ فِي الدُّنْيَا، فَمَنَعُوا الِاسْتِقْلَالَ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَأَنْ تَطْلُبَهُ بِلِسَانِ حَالِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا وَلَوْ سَأَلَتْهُ لَأَعْطَاهَا اللهُ إِيَّاهُ، فَنَسْأَلُهُ أَنْ يَنْصُرَهَا عَلَيْهِمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ.
قَدْ قَتَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْحَسَدُ وَالتَّمَنِّي، كُلَّمَا ظَهَرَتْ آيَاتُ النُّبُوغِ فِي الْعِلْمِ، أَوِ الْعَمَلِ فِي رَجُلٍ مِنْهَا قَامَ الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَتَمَنَّوْنَ مَا فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِثْلُ مَوَاهِبِهِ وَكَسْبِهِ، يُبَدِّلُونَ حَسَنَاتِهِ سَيِّئَاتٍ، وَيَبْغُونَهُ الْفِتَنَ وَيَضَعُونَ لَهُ الْعَثَرَاتِ، يَسْتَكْبِرُونَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَقِرُونَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَرَوْنَهَا أَهْلًا لِأَنْ تُدْرِكَ مَا أَدْرَكَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُصَغِّرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا اسْتَكْبَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَدْمِغَتِهِمْ، وَيُعَظِّمُونَ بِأَقْوَالِهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute