للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ ضَرْبِ النِّسَاءِ لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ الْمُسْتَنْكَرِ فِي الْعَقْلِ أَوِ الْفِطْرَةِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، فَهُوَ أَمْرٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي حَالِ فَسَادِ الْبِيئَةِ وَغَلَبَةِ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ إِذَا رَأَى الرَّجُلُ أَنَّ رُجُوعَ الْمَرْأَةِ عَنْ نُشُوزِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَلَحَتِ الْبِيئَةُ، وَصَارَ النِّسَاءُ يَعْقِلْنَ النَّصِيحَةَ، وَيَسْتَجِبْنَ لِلْوَعْظِ، أَوْ يَزْدَجِرْنَ بِالْهَجْرِ، فَيَجِبُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الضَّرْبِ، فَلِكُلِّ حَالٍ حُكْمٌ يُنَاسِبُهَا فِي الشَّرْعِ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِالرِّفْقِ بِالنِّسَاءِ، وَاجْتِنَابِ ظُلْمِهِنَّ، وَإِمْسَاكِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ تَسْرِيحِهِنَّ بِإِحْسَانٍ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالنِّسَاءِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

أَقُولُ: وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا هُوَ فِي تَقْبِيحِ الضَّرْبِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَيَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ يَضْرِبُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا آخِرَهُ؟ يُذَكِّرُ الرَّجُلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ الْخَاصِّ بِامْرَأَتِهِ، وَهُوَ أَقْوَى وَأَحْكَمُ اجْتِمَاعٍ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ يَتَّحِدُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ اتِّحَادًا تَامًّا، فَيَشْعُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّ صِلَتَهُ بِالْآخَرِ أَقْوَى مِنْ صِلَةِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِبَعْضٍ ـ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ وَالْوِحْدَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ كَنَفْسِهِ، مَهِينَةً كَمَهَانَةِ عَبْدِهِ، بِحَيْثُ يَضْرِبُهَا بِسَوْطِهِ أَوْ يَدِهِ؟ حَقًّا إِنَّ الرَّجُلَ الْحَيِيَّ الْكَرِيمَ لَيَتَجَافَى طَبْعُهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْجَفَاءِ، وَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ

يَطْلُبَ مُنْتَهَى الِاتِّحَادِ بِمَنْ أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ الْإِمَاءِ، فَالْحَدِيثُ أَبْلَغُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَشْنِيعِ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَأَذْكُرُ أَنَّنِي هُدِيتُ إِلَى مَعْنَاهُ الْعَالِي قَبْلَ أَنْ أَطَّلِعَ عَلَى لَفْظِهِ الشَّرِيفِ، فَكُنْتُ كُلَّمَا سَمِعْتُ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ أَقُولُ: يَا لَلَّهِ الْعَجَبُ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعِيشَ عِيشَةَ الْأَزْوَاجِ مَعَ امْرَأَةٍ تُضْرَبُ، تَارَةً يَسْطُو عَلَيْهَا بِالضَّرْبِ، فَتَكُونُ مِنْهُ كَالشَّاةِ مِنَ الذِّئْبِ، وَتَارَةً يَذِلُّ لَهَا كَالْعَبْدِ طَالِبًا مِنْهَا مُنْتَهَى الْقُرْبِ؟ وَلَكِنْ لَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَطِيبُ لَهُ هَذِهِ الْحَيَاةُ، فَإِذَا لَمْ تُقَدِّرِ امْرَأَتُهُ بِسُوءِ تَرْبِيَتِهَا تَكْرِيمَهُ إِيَّاهَا حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَمْ تَرْجِعْ عَنْ نُشُوزِهَا بِالْوَعْظِ وَالْهُجْرَانِ، فَارَقَهَا بِمَعْرُوفٍ وَسَرَّحَهَا بِإِحْسَانٍ إِلَّا أَنْ يَرْجُوَ صَلَاحَهَا بِالتَّحْكِيمِ الَّذِي أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ، وَلَا يَضْرِبُ؛ فَإِنَّ الْأَخْيَارَ لَا يَضْرِبُونَ النِّسَاءَ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُمْ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كَانَ الرِّجَالُ نُهُوا عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، ثُمَّ شَكُوهُنَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ضَرْبِهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ فَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ بِالْحَظْرِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الضَّرْبَ عِلَاجٌ مُرٌّ، قَدْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْخَيِّرُ الْحُرُّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَزُولُ مِنَ الْبُيُوتِ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ يَعُمُّ التَّهْذِيبُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>