للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَلَّمَا تَرْضَى الْأُمُّ بِالْعَدْلِ وَتَعْذُرُ وَلَدَهَا فِي خُضُوعِهِ لِسُلْطَانِ الْحُبِّ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، بَلْ تَأْخُذُهَا عِزَّةُ الْوَالِدِيَّةِ، حَتَّى تَسْتَلَّ مِنْ صَدْرِهَا حَنَانَ الْأُمُومَةِ، وَيَطْغَى فِي نَفْسِهَا سُلْطَانُ اسْتِعْلَائِهَا عَلَى وَلَدِهَا، وَلَا يُرْضِيهَا إِلَّا أَنْ يَهْبِطَ مِنْ جَنَّةِ سَعَادَةِ الزَّوْجِيَّةِ لِأَجْلِهَا، وَرُبَّمَا تَلْتَمِسُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ زَوْجًا أُخْرَى يَنْفِرُ مِنْهَا طَبْعُهُ، وَمَا حِيلَتُهُ وَقَدْ سُلِبَ مِنْهُ قَلْبُهُ، كَمَا أَنَّهَا تَظْلِمُهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِيَارِ، وَظُلْمُ الْآبَاءِ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ ظُلْمِ الْأُمَّهَاتِ، وَلَا تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَيَا وَيْحَ الْوَلَدِ الَّذِي يُصَابُ بِمِثْلِهِمَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَا جَاهِلَيْنِ بَلِيدَيْنِ يَتَعَذَّرُ إِقْنَاعُهُمَا.

وَلَعَلَّكَ إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ فِي أَخْبَارِ الْبَشَرِ لَا تَجِدُ فِيهَا أَغْرَبَ مِنْ تَحَكُّمِ الْوَالِدَيْنِ فِي تَزْوِيجِ الْأَوْلَادِ بِمَنْ يَكْرَهُونَ، أَوْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى تَطْلِيقِ مَنْ يُحِبُّونَ، ثَبَتَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ " أَنَّ الثَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا "، فَلَيْسَ لِأَبِيهَا وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا أَنْ يَعْقِدُوا لَهَا إِلَّا عَلَى مَنْ تَخْتَارُهُ وَتَرْضَاهُ لِنَفْسِهَا ; لِأَنَّهَا لِمُمَارَسَتِهَا الرِّجَالَ تَعْرِفُ مَصْلَحَتَهَا، وَأَنَّ الْبِكْرَ عَلَى حَيَائِهَا وَغَرَارَتِهَا، وَعَدَمِ اخْتِبَارِهَا وَعِلْمِ مَا يَعْلَمُ الْأَبُ الرَّحِيمُ مِنْ مَصْلَحَتِهَا، يَجِبُ أَنْ تُسْتَأْذَنَ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَيُكْتَفَى مِنْ إِذْنِهَا بَصِمَاتِهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تُظْهِرِ الرِّضَى بَلْ صَرَّحَتْ بِعَدَمِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا، وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْأَبَ وَلِيٌّ مُجْبَرٌ كَالشَّافِعِيَّةِ اشْتَرَطُوا فِي صِحَّةِ تَزْوِيجِهِ لِابْنَتِهِ بِدُونِ إِذْنِهَا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِالْمَهْرِ حَالًا، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا خَفِيَّةٌ، وَأَلَّا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلِيِّ الْعَاقِدِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَهَذَا قَوْلُهُمْ

فِي الْعَذْرَاءِ الْمُخَدَّرَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ أَبِيهِ بِتَزْوِيجِ نَفْسِهِ إِجْمَاعًا وَلَيْسَ لِأَبِيهِ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَتَحَكَّمُ الْوَالِدُ فِي وَلَدِهِ بِمَا لَا يَحْكُمُ بِهِ الشَّرْعُ وَلَا تَرْضَى بِهِ الْفِطْرَةُ؟ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ ظُلْمِ الِاسْتِعْلَاءِ الَّذِي يُوهِمُ الرَّجُلَ أَنَّ ابْنَهُ كَعَبْدِهِ، يَجِبُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ مَعَهُ رَأْيٌ، وَلَا اخْتِيَارٌ فِي أَمْرِهِ، لَا فِي حَاضِرِهِ وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ جَاهِلًا بَلِيدًا، وَالْوَلَدُ عَالِمًا رَشِيدًا، وَعَاقِلًا حَكِيمًا؟ وَالْوَيْلُ كُلَّ الْوَيْلِ لِلْوَلَدِ إِذَا كَانَ وَالِدُهُ الْجَهُولُ الظَّلُومُ غَنِيًّا، وَكَانَ هُوَ مُعْوِزًا فَقِيرًا، فَإِنَّ وَالِدَهُ يَدِلُّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بِسُلْطَتَيْنِ، وَيُحَارِبُهُ بِسِلَاحَيْنِ، لَا يَهُولَنَّكَ أَيُّهَا السَّعِيدُ بِالْأَبَوَيْنِ الرَّحِيمَيْنِ مَا أَذْكُرُ مِنْ ظُلْمِ بَعْضِ الْوَالِدِينَ الْجَاهِلِينَ الْقُسَاةِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا لَا تَعْلَمُ، إِنِّي لَأَعْرِفُ مَا لَا تَعْرِفُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَّهَاتِ اللَّوَاتِي تَحَكَّمْنَ فِي أَمْرِ زَوَاجِ بَنَاتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ تَحَكُّمًا كَانَ سَبَبَ الْمَرَضِ الْقَتَّالِ، وَالدَّاءِ الْعُضَالِ، فَالْمَوْتِ الزُّؤَامِ، ثُمَّ نَدِمْنَ نَدَامَةَ الْكَسْعَى وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ، وَلَعَلَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ تَحَكُّمَ الْآبَاءِ فِي ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَضَرُّ، وَأَدْهَى وَأَمَرُّ، عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُ.

وَمِنْ ضُرُوبِ ظُلْمِ الْوَالِدَيْنِ الْجَاهِلَيْنِ لِلْوَلَدِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ: مَنْعُهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِهِ فِي تَرْقِيَةِ نَفْسِهِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى السَّفَرِ وَالتَّرْحَالِ، وَالْأَمْثِلَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>