للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَوْ بِسُلُوكِهِ فِيهِمْ مَسْلَكَ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ حَتَّى يُفْضَحَ سِرُّهُ وَيَظْهَرَ أَمْرُهُ، فَيَحْبَطَ عَمَلُهُ، فَالْمَسَاكِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مِسْكِينٌ مَعْذُورٌ يُسَاعَدُ بِالْمَالِ يُنْفِقُهُ، أَوْ يُسَاعَدُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِكَسْبِهِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، وَمِسْكِينٌ غَيْرُ مَعْذُورٍ يُرْشَدُ إِلَى تَقْصِيرِهِ، وَلَا يُسَاعَدُ عَلَى إِسْرَافِهِ وَتَبْذِيرِهِ، بَلْ يُدَلُّ عَلَى طُرُقِ الْكَسْبِ، فَإِنِ اتَّعَظَ وَقَبِلَ النُّصْحَ، وَإِلَّا تُرِكَ أَمْرُهُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ وَزِيَادَةٍ وَاخْتِصَارٍ.

ثُمَّ قَالَ: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ الْجِوَارُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْقَرَابَةِ فَهِيَ قُرْبٌ بِالنَّسَبِ، وَهُوَ قُرْبٌ بِالْمَكَانِ وَالسَّكَنِ، وَقَدْ يَأْنَسُ الْإِنْسَانُ بِجَارِهِ الْقَرِيبِ، مَا لَا يَأْنَسُ بِنَسِيبِهِ الْبَعِيدِ، وَيَحْتَاجَانِ إِلَى التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ مَا لَا يَحْتَاجُ الْأَنْسِبَاءُ الَّذِينَ تَنَاءَتْ دِيَارُهُمْ، فَإِذَا لَمْ يُحْسِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا خَيْرٌ لِسَائِرِ النَّاسِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى، وَالْجَارِ الْجُنُبِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَوَّلُ هُوَ الْقَرِيبُ مِنْكَ بِالنَّسَبِ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَجْنَبِيُّ لَا قَرَابَةَ بَيْنَكَ

وَبَيْنَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَوَّلُ الْأَقْرَبُ مِنْكَ دَارًا، وَالثَّانِي مَنْ كَانَ أَبْعَدَ مَزَارًا، وَقِيلَ: إِنَّ ذَا الْقُرْبَى مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْكَ وَلَوْ بِالدِّينِ، وَالْأَجْنَبِيَّ مَنْ لَا يَجْمَعُكَ بِهِ دِينٌ وَلَا نَسَبٌ، وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفِ السَّنَدِ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ، وَالْبَزَّارِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ، فَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْقَرَابَةِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ: حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ: حَقُّ الْجِوَارِ "، وَثَبَتَ الْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَةِ الْجَارِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى كَأَحَادِيثِ الْوَصَايَا الْمُطْلَقَةِ وَالْوَقَائِعِ الْمُعَيَّنَةِ كَعِيَادَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِوَلَدِ جَارِهِ الْيَهُودِيِّ فِي الصَّحِيحِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ " أَنَّهُ ذُبِحَ لَهُ شَاةٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ: أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ، أَهْدَيْتَ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَهِمَ مِنَ الْوَصَايَا الْمُطْلَقَةِ فِي الْجَارِ أَنَّهَا تَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِ، وَنَاهِيكَ بِفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْوَصَايَا حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ وَرَوَاهُ غَيْرُهَا عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: حَدَّدَ بَعْضُهُمُ الْجِوَارَ بِأَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِ هِيَ الَّتِي تُعَرِّفُنَا سِرَّ الْوَصِيَّةِ، وَمَعْنَى الْجِوَارِ: الْمُرَادُ بِالْجَارِ مَنْ تُجَاوِرُهُ وَيَتَرَاءَى وَجْهُكَ وَوَجْهُهُ فِي غُدُوِّكَ أَوْ رَوَاحِكَ إِلَى دَارِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تُعَامِلَ مَنْ تَرَى وَتُعَاشِرَ بِالْحُسْنَى، فَتَكُونَ فِي رَاحَةٍ مَعَهُمْ، وَيَكُونُوا فِي رَاحَةٍ مَعَكَ، اهـ.

فَهُوَ يَرَى أَنَّ أَمْرَ الْجِوَارِ لَا يُحَدَّدُ بِالْبُيُوتِ، وَالتَّحْدِيدُ بِالدُّورِ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ، وَحَدَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَالصَّوَابُ عَدَمُ التَّحْدِيدِ وَالرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْعَرَبِ، وَالْأَقْرَبُ حَقُّهُ آكَدُ وَإِكْرَامُ الْجَارِ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَزَادَهُ الْإِسْلَامُ تَأْكِيدًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>