الْمُفَسِّرِينَ عَنْ ذِكْرِهِ لِنُدْرَةِ اللُّقَطَاءِ فِي زَمَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ، وَلَا حَظَّ لِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مِنَ التَّأْلِيفِ إِلَّا النَّقْلَ عَنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الِاسْتِقْلَالَ فِي الْفَهْمِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي تَوَاطَئُوا عَلَى الْقَوْلِ بِإِقْفَالِ بَابِهِ، وَانْقِرَاضِ أَرْبَابِهِ، وَالرِّضَى بِاسْتِبْدَالِ الْجَهْلِ بِهِ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمُسْتَقِلِّ بِفَهْمِ الشَّيْءِ لَا يُسَمَّى عَالِمًا بِهِ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ.
وَقَدْ كَثُرَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ اللُّقَطَاءُ، وَلَوْلَا عِنَايَةُ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْأُورُوبِّيِّينَ بِجَمْعِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ لَكَانَ شَرُّهُمْ فِي الْبِلَادِ مُسْتَطِيرًا، فَلِلَّهِ دَرُّ هَؤُلَاءِ الْأُورُبِّيِّينَ مَا أَشَدَّ عِنَايَتَهُمْ بِدِينِهِمْ، وَنَفْعَ النَّاسِ بِهِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِطَاعَتِهِمْ، وَيَا لَلَّهِ مَا أَشَدَّ غَفْلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَجَهْلَ جَمَاهِيرِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنَ الْإِفْرِنْجِ عِنَايَةً بِدِينِهِمْ وَغَيْرَةً عَلَيْهِمْ وَعَمَلًا بِهِ، بَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِفْرِنْجَ قَدْ تَرَكُوا الدِّينَ أَلْبَتَّةَ، يَسْتَنْبِطُونَ هَذِهِ النَّتِيجَةَ مِنْ بَعْضِ أَحْرَارِهِمُ الْغَالِينَ، الَّذِينَ يَلْقَوْنَهُمْ فَيَسْمَعُونَ مِنْهُمْ كَلِمَ الْإِلْحَادِ، أَوْ مِنَ السِّيَاسِيِّينَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُزَلْزِلُونَ ثِقَتَنَا بِالدِّينِ لِمَا يَجْهَلُ أَكْثَرُنَا مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ، وَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَرْبِيَةِ اللُّقَطَاءِ، وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ.
قَالَ تَعَالَى: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أَيْ: وَأَحْسِنُوا بِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، مِنْ فِتْيَانِكُمْ وَفَتَيَاتِكُمْ، وَعَبَّرَ فِي آيَةِ الْبِرِّ [٢: ١٧٧] ، وَفِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ [٩: ٦٠] ، بِقَوْلِهِ: وَفِي الرِّقَابِ أَيْ: تَحْرِيرِهَا، وَهَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ الْأَتَمُّ الْأَكْمَلُ وَهُوَ مِنَ الْمَالِكِ يَحْصُلُ بِعِتْقِهِمْ، وَمِنْ غَيْرِهِ بِإِعَانَتِهِمْ عَلَى شِرَاءِ أَنْفُسِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ نُجُومًا وَأَقْسَاطًا، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُكَاتَبَةِ، وَدُونَ هَذَا إِحْسَانُ الْمَالِكِينَ الْمُعَامَلَةَ إِذَا اسْتَبْقَوْهُمْ لِخِدْمَتِهِمْ وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ ذَلِكَ قَوْلًا وَعَمَلًا، وَمِنْهَا أَلَّا يُكَلَّفُوا مَا لَا يُطِيقُونَ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: هُمْ إِخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ
، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُبَالِغُ وَيُؤَكِّدُ فِي الْوَصِيَّةِ بِهِمْ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ آخِرِ وَصَايَاهُ، وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: " كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ حَتَّى جَعَلَ يُغَرْغِرُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ "، فَهَلْ بَعْدَ هَذِهِ الْعِنَايَةِ، وَهَلْ بَعْدَ هَذَا التَّأْكِيدِ مِنْ تَأْكِيدٍ؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَوْصَانَا اللهُ تَعَالَى بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعَدُّونَ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَدْنَى الطَّبَقَاتِ؛ لِئَلَّا نَظُنَّ أَنَّ اسْتِرْقَاقَهُمْ يُجِيزُ امْتِهَانَهُمْ، وَيَجْعَلُهُمْ كَالْحَيَوَانَاتِ الْمُسَخَّرَةِ، فَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي الْإِحْسَانِ كَسَائِرِ طَبَقَاتِ النَّاسِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute