لِلْحِكْمَةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ تَعَالَى أَوْ وَاجِبٌ فِي حَقِّهِ كَمَا يَجِبُ لَهُ كُلُّ كَمَالٍ، وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ كُلُّ نَقْصٍ، فَقَامَ
الْآخَرُونَ يُجَادِلُونَهُمْ عَلَى لَفْظِ " يَجِبُ عَلَيْهِ " وَلَعَلَّهُمْ قَالُوا: " يَجِبُ لَهُ " فَحَرَّفُوهَا، وَمَهْمَا قَالُوا فَالْمَقْصَدُ وَاحِدٌ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهُهُ عَنِ النَّقْصِ، وَأَكْثَرُ الْجَدَلِ الَّذِي أَهْلَكَ الْمُسْلِمِينَ وَفَرَّقَهُمْ شِيَعًا وَأَذَاقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْمُشَاحَةِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ، وَكِتَابُ اللهِ وَدِينُهُ يَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْ مَجْمُوعِ الْقُرْآنِ مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا فِي مَسْأَلَةِ الْجَزَاءِ يَفْقَهُ مَعَهُ نَفْيَ الظُّلْمِ عَلَيْهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ، فَلِكُلِّ عَمَلٍ أَثَرٌ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ يَرْفَعُ نَفْسَهُ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ إِلَى عِلِّيِّينَ، أَوْ يَهْبِطُ بِهَا إِلَى سَافِلِينَ، وَلِذَلِكَ دَرَجَاتٌ وَمَثَاقِيلُ مُقَدَّرَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا يُحِيطُ بِدَقَائِقِهَا إِلَّا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.
وَإِنْ تَكْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا أَقُولُ: أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُنْقِصُ أَحَدًا مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يَزِيدُ لِلْمُحْسِنِ فِي حَسَنَتِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الذَّرَّةُ الَّتِي عَمِلَهَا الْعَامِلُ سَيِّئَةً كَانَ جَزَاؤُهَا بِقَدْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا لَهُ اللهُ تَعَالَى عَشْرَةَ أَضْعَافٍ أَوْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦: ١٦٠) ، وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ، وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً (٢: ٢٤٥) ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: " وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ "، بِرَفْعِ حَسَنَةٍ أَيْ: وَإِنْ تُوجَدْ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: " يُضَعِّفْهَا " بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مِنَ التَّضْعِيفِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضَاعَفَةِ، وَرَدُّوا قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ: إِنَّ ضَاعَفَ يَقْتَضِي مِرَارًا كَثِيرَةً وَضَعَّفَ يَقْتَضِي مَرَّتَيْنِ.
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا يَعْنِي أَنَّ فَضْلَهُ تَعَالَى أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُضَاعِفَ لِلْمُحْسِنِ حَسَنَتَهُ فَقَطْ بِأَلَّا يَكُونَ عَطَاؤُهُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ الْحَسَنَاتِ، بَلْ هُوَ يَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ مِنْ فَضْلِهِ وَيُعْطِيهِمْ مِنْ لَدُنْهُ أَيْ مِنْ عِنْدِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ حَسَنَاتِهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ عَطَاءً كَبِيرًا قَالُوا: إِنَّهُ سَمَّى هَذَا الْعَطَاءَ أَجْرًا، وَهُوَ لَا مُقَابِلَ لَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْأَجْرِ عَلَى الْعَمَلِ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ مِنْ قَبِيلِ مَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ، وَلَعَلَّ نُكْتَةَ هَذَا التَّجَوُّزِ هِيَ الْإِيذَانُ بِأَنَّ هَذَا الْعَطَاءَ الْعَظِيمَ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْمُحْسِنِينَ، فَهُوَ عِلَاوَةٌ عَلَى أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ، وَالْعِلَاوَةُ عَلَى الشَّيْءِ تَقْتَضِي وُجُودَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَا مَطْمَعَ فِيهَا لِلْمُسِيئِينَ الَّذِينَ غَلَبَتْ سَيِّئَاتُهُمُ الْمُفْرَدَةُ عَلَى
حَسَنَاتِهِمُ الْمُضَاعَفَةِ، فَمَا قَوْلُكَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ طُمِسَتْ حَسَنَاتُهُمْ فِي ظُلْمَةِ شِرْكِهِمْ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى! وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ الْعَظِيمَ هُوَ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَرَاجِعْهُ فِي مَظَانِّهِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ حَذْفُ النُّونِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ فَإِنَّ أَصْلَهَا " تَكُنْ "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute