ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَهَا آيَةُ يُونُسَ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَائْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوَا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (١٠: ٣٨) ثُمَّ آيَةُ هُودٍ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَائْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ وَادْعُوَا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١١: ١٣) وَهَذِهِ السُّوَرُ الثَّلَاثُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ مُتَتَابِعَاتٍ كَمَا رَوَاهُ الْعُلَمَاءُ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَلَكِنْ فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ يُونُسَ مَدَنِيَّةٌ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى هِيَ الْمُوَافَقَةُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَلِأُسْلُوبِهَا فَإِنَّهُ أُسْلُوبُ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى تَحَدَّى النَّاسَ أَوَّلًا بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ فِي آيَةِ الْإِسْرَاءِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ هُودٍ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فِي آيَةِ يُونُسَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا تَرْتِيبٌ مَعْقُولٌ لَوْ سَاعَدَ عَلَيْهِ تَارِيخُ النُّزُولِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّحَدِّيَ فِي سُورَتَيْ يُونُسَ وَهُودٍ خَاصٌّ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْبَارِ كَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عِلْمٌ بِهَا وَلَا قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا) (١١: ٤٩) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ) (٢٨: ٤٤) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ ٤٦، وَكَمَا قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عَقِبَ قِصَّةِ مَرْيَمَ: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) (٣: ٤٤) الْآيَةَ.
وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرِيَاتٍ دُونَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، هُوَ إِرَادَةُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ بِأَسَالِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَسَاوِيَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَإِزَالَةِ شُبْهَةٍ تَخْطُرُ بِالْبَالِ، بَلْ بَعْضُ النَّاسِ أَوْرَدَهَا عَلَى الْإِعْجَازِ بِالْبَلَاغَةِ وَالْأُسْلُوبِ، وَهِيَ أَنَّ الْجُمْلَةَ أَوِ السُّورَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْقِصَّةِ يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي اللُّغَةِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تُؤَدِّي الْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةٌ مِنْهَا يَنْتَهِي إِلَيْهَا حُسْنُ الْبَيَانِ، مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَفْظِيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ يَحِلُّ بِالْفَهْمِ أَوِ التَّأْثِيرِ الْمَطْلُوبِ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَعْجَزَ غَيْرَهُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّ تَأْلِيفَ الْكَلَامِ فِي اللُّغَةِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ. وَمِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي وَضَّحُوا بِهَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) قَالُوا إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ تَحْتَمِلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِضْعَةُ تَرَاكِيبَ أَفْصَحُهَا وَأَبْلَغُهَا وَأَسْلَمُهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْإِبْهَامِ تَرْكِيبُ
الْآيَةِ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ عَبَّرَ عَنْ بَعْضِ الْمَعَانِي وَبَعْضِ الْقِصَصِ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ مِنْ مُخْتَصَرٍ وَمُطَوَّلٍ، وَالتَّحَدِّي بِمِثْلِهِ لَا يَظْهَرُ فِي قِصَّةٍ مُخْتَرَعَةٍ مُفْتَرَاةٍ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ وَتَرَاكِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَمَا نَرَى فِي سُورَةٍ فَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فِي هِدَايَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا وَأُسْلُوبِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْحِكَمِ وَالْعِبَرِ وَالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي قَصَصِهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute