وَقَالَ الشَّعَرَانِيُّ فِي الْمِيزَانِ فِي وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِالتُّرَابِ، أَوْ بِرَمْلٍ فِيهِ غُبَارٌ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ بِجَوَازِهِ بِالْحِجَارَةِ وَجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ حَتَّى النَّبَاتِ عِنْدَ مَالِكٍ أَقُولُ: وَكَذَا الثَّلْجُ وَالْجَلِيدُ فِي رِوَايَةٍ مَا نَصُّهُ: " وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قُرْبُ التُّرَابِ مِنَ الرُّوحَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ هُوَ مَا يَحْصُلُ مِنْ عُكَارَةِ الْمَاءِ الَّذِي جَعَلَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ فَهُوَ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى الْمَاءِ، بِخِلَافِ الْحَجَرِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ الزَّائِدَ الصَّاعِدَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَلَمْ يَتَخَلَّصْ لِلْمَائِيَّةِ وَلَا لِلتُّرَابِيَّةِ، فَكَانَ ضَعِيفَ الرُّوحَانِيَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِخِلَافِ التُّرَابِ، وَسَمِعْتُ سَيِّدِي عَلِيًّا الْخَوَّاصَ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ بِالْحَجَرِ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ لِبُعْدِ الْحَجَرِ عَنْ طَبْعِ الْمَاءِ وَرُوحَانِيَّتِهِ فَلَا يَكَادُ يُحْيِي الْعُضْوَ الْمَمْسُوحَ، وَلَوْ سُحِقَ، لَا سِيَّمَا أَعْضَاءُ أَمْثَالِنَا الَّتِي مَاتَتْ مِنْ كَثْرَةِ الْمَعَاصِي وَالْغَفَلَاتِ وَأَكْلِ الشَّهَوَاتِ، وَسَمِعْتُهُ مَرَّةً
أُخْرَى يَقُولُ: نِعْمَ مَا فَعَلَ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَخْصِيصِ التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ بِهِ بَعْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، لَا سِيَّمَا أَعْضَاءُ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الْوُقُوعُ فِي الْخَطَايَا مِنْ أَمْثَالِنَا، فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوبَ اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ خَاصٌّ بِالْأَصَاغِرِ، وَوُجُوبَ اسْتِعْمَالِ الْحَجَرِ خَاصٌّ بِالْأَكَابِرِ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ رَبَّهُمْ، لَكِنْ إِنْ تَيَمَّمُوا بِالتُّرَابِ زَادُوا رُوحَانِيَّةً وَانْتِعَاشًا.
وَسَمِعْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى يَقُولُ: وَجْهُ مَنْ قَالَ: يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِالْحَجَرِ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ كَوْنُهُ رَأَى أَنَّ أَصْلَ الْحَجَرِ مِنَ الْمَاءِ، كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: " يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ انْتَهَى، إِلَى أَنْ قَالَ الشَّعْرَانِيُّ: لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْمُتَوَرِّعِ التَّيَمُّمُ بِالْحَجَرِ إِلَّا بَعْدَ فَقْدِ التُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ مَرْتَبَةٌ ضَعِيفَةٌ بِالنَّظَرِ لِلتُّرَابِ، ثُمَّ أَوْرَدَ آيَةَ التَّقْوَى بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَالْحَدِيثَ الَّذِي بِمَعْنَاهَا، ثُمَّ قَالَ: وَنَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُ عُلَمَائِنَا فِي بَابِ الْحَجِّ: إِنَّ مَنْ لَا شَعْرَ بِرَأْسِهِ يُسْتَحَبُّ إِمْرَارُهُ الْمُوسَى عَلَيْهِ تَشْبِيهًا بِالْحَالِقِينَ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا، فَمَنْ فَقَدَ التُّرَابَ الْمَعْهُودَ ضَرَبَ عَلَى الْحَجَرِ تَشْبِيهًا بِالضَّارِبِينَ بِالتُّرَابِ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْمَعْرُوفُ بِشَاهْ وَلِيِّ اللهِ، الْمُحَدِّثُ الدَّهْلَوِيُّ فِي كِتَابِهِ (حُجَّةِ اللهِ الْبَالِغَةِ) مَا نَصُّهُ: لَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي شَرَائِعِهِ أَنْ يُسَهِّلَ عَلَيْهِمْ كُلَّ مَا يَسْتَطِيعُونَهُ، وَكَانَ أَحَقَّ أَنْوَاعِ التَّيْسِيرِ أَنْ يُسْقِطَ مَا فِيهِ حَرَجٌ إِلَى بَدَلٍ ; لِتَطْمَئِنَّ نُفُوسُهُمْ وَلَا تَخْتَلِفَ الْخَوَاطِرُ عَلَيْهِمْ بِإِهْمَالِ مَا الْتَزَمُوهُ غَايَةَ الِالْتِزَامِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَأْلَفُوا تَرْكَ الطِّهَارَاتِ، أَسْقَطَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ نَزَلَ الْقَضَاءُ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِإِقَامَةِ التَّيَمُّمِ مَقَامَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَحَصَلَ لَهُ وُجُودٌ تَشْبِيهِيٌّ أَنَّهُ طَهَارَةٌ مِنَ الطِّهَارَاتِ، وَهَذَا الْقَضَاءُ أَحَدُ الْأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِي تَمَيَّزَتْ بِهَا الْمِلَّةُ الْمُصْطَفَوِيَّةُ مِنْ سَائِرِ الْمِلَلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: جُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ أَقُولُ: إِنَّمَا خَصَّ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ تُفْقَدُ، فَهِيَ أَحَقُّ مَا يُرْفَعُ بِهِ الْحَرَجُ؛ وَلِأَنَّهَا طَهُورٌ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَالْخُفِّ وَالسَّيْفِ بَدَلًا عَنِ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَذَلُّلًا بِمَنْزِلَةِ تَعْفِيرِ الْوَجْهِ فِي التُّرَابِ، وَهُوَ يُنَاسِبُ طَلَبَ الْعَفْوِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفَرَّقَ بَيْنَ بَدَلِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute