للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ مَا هُنَا، يَقُولُ هُنَا: إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا أَيْ حَظًّا، وَيَقُولُ هُنَاكَ: إِنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا، فَالْكَلَامُ يُؤَيِّدُ وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالتَّعْبِيرُ: أُوتُوا الْكِتَابَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يُعَارِضُهُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلْجِنْسِ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ عِلْمُهُ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، قَالَ: أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا الْكِتَابَ كُلَّهُ بَلْ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِهِ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا وَزَادُوا عَلَيْهَا، وَالزِّيَادَةُ فِيهِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ، فَالتَّوْرَاةُ تَنْهَاهُمْ عَنِ الْكَذِبِ وَإِيذَاءِ النَّاسِ وَأَكْلِ الرِّبَا مَثَلًا، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَزَادَ لَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالرُّسُومِ وَالتَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ فَهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَا مِمَّا يَعْرِفُونَهُ عَنْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَهُمْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ فِي الدِّينِ، فَالْأَمْرُ الْمُحَقَّقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِبَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ وَقَدْ أَهْمَلُوا سَائِرَهَا، فَفِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ بِالْعَمَلِ بِالدِّينِ وَعَدَمِهِ يَذْكُرُ الْوَاقِعَ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتُوا الْكِتَابَ كُلَّهُ إِذْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ كُلِّهِ، وَإِنَّمَا عَمِلُوا بِبَعْضِهِ، وَفِي مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ

عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ يُنَادِيهِمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا إِلَخْ كَمَا تَرَى فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلُهَا كَثِيرٌ.

هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هُنَا قُلْتُ: أَلَيْسَ التَّعْبِيرُ بِالنَّصِيبِ إِشَارَةً أَوْ نَصًّا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا الْكِتَابَ كُلَّهُ، بَلْ فَقَدُوا حَظًّا وَنَصِيبًا آخَرَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: بَلَى فَأَجَازَ مَا فَهِمْتُهُ وَأَقَرَّهُ وَكُنْتُ بَيَّنْتُ هَذَا مِنْ قَبْلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى شَرِيعَةِ حَمُورَابِي وَنِسْبَتِهَا إِلَى التَّوْرَاةِ، وَمَا هِيَ التَّوْرَاةُ، وَذَلِكَ فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ.

فَالَّذِي لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَكُونُ قِسْمَيْنِ ; أَحَدُهُمَا: مَا أَضَاعُوهُ وَنَسُوهُ، وَثَانِيهِمَا: مَا حَفِظُوا حُكْمَهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَضَاعُوهُ مِنَ الْكِتَابِ نَعْتُ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ اشْتِرَاءَ الضَّلَالَةِ هُوَ: بَذْلُ الْمَالِ لِتَأْيِيدِ الْيَهُودِيَّةِ وَالْكَيْدِ لِلْإِسْلَامِ وَمُقَاوَمَتِهِ، فَقَالَ: كَانَ بَعْضُ عَوَامِّ الْيَهُودِ يُعْطُونَ أَحْبَارَهُمُ الْمَالَ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ.

وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ أَيْ: وَاللهُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِأَعْدَائِكُمْ، ذَوَاتِهِمْ كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ ; وَأَحْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَكِيدُونَ بِهَا لَكُمْ فِي الْخَفَاءِ وَمَا يَغْشَوْنَكُمْ بِهِ فِي الْجَهْرِ بِإِبْرَازِ الْخَدِيعَةِ فِي مَعْرِضِ النَّصِيحَةِ، وَإِظْهَارِ الْوَلَاءِ لَكُمْ وَالرَّغْبَةِ فِي نَصْرِكُمْ: وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا، لَكُمْ يَتَوَلَّى شُئُونَكُمْ بِإِرْشَادِكُمْ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُكُمْ وَفَوْزُكُمْ، وَيَنْصُرُكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ بِتَوْفِيقِكُمْ لِلْعَمَلِ بِأَسْبَابِ النَّصْرِ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَالتَّعَاوُنِ، وَالتَّنَاصُرِ، وَإِعْدَادِ جَمِيعِ مَا يُسْتَطَاعُ مِنْ وَسَائِلِ الْقُوَّةِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِوِلَايَةِ غَيْرِهِ وَلَا تَطْلُبُوا النَّصْرَ إِلَّا مِنْهُ بِاتِّبَاعِ سُنَنِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَهِدَايَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا عَدَمُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَهْلُ الْأَثَرَةِ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ إِلَّا لِمَصْلَحَةِ أَنْفُسِهِمْ كَالْيَهُودِ: وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا أَبْلَغُ مِنْ كَفَى اللهُ وَلِيًّا، أَوْ كَفَى وِلَايَةُ اللهِ ; لِأَنَّ الْكِفَايَةَ تَعَلَّقَتْ بِذَاتِهِ مِنْ حَيْثُ وِلَايَتُهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>