فِي تَكْذِيبِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَحْرِيفُ أَحْبَارِهِمْ لِلْكِتَابِ، وَاتِّبَاعُهُمْ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ (٩: ٣١) ، وَوَرَدَ فِي تَفْسِيرِهَا الْمَرْفُوعِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتْبَعُونَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى أَصْلِ الْكِتَابِ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي الشِّرْكِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; إِذِ الشِّرْكُ بِاللهِ يَتَحَقَّقُ بِاعْتِمَادِ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِ اللهِ مَعَ اللهِ فِي طَلَبِ النَّجَاةِ مِنْ رَزَايَا الدُّنْيَا وَمَصَائِبِهَا، أَوْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ
بَعْضِ النَّاسِ فِي التَّشْرِيعِ كَالْعِبَادَاتِ، وَالْعَقَائِدِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِثْبَاتُ الشِّرْكِ لِلْيَهُودِ هُنَا وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ لَا يُنَافِي تَسْمِيَتَهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: إِيمَانًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ ; إِذْ لَا يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الشِّرْكِ.
أَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ حَقِيقَةَ الشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ: الشُّعُورُ بِسُلْطَةٍ وَتَأْثِيرٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَكُلُّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الشُّعُورِ، وَالشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ: الْأَخْذُ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَنْ بَعْضِ الْبَشَرِ دُونَ الْوَحْيِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الشِّرْكِ هُوَ الَّذِي أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى تَفْسِيرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِآيَةِ التَّوْبَةِ بِهِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩: ٣١) ، فَسَّرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اتِّخَاذَهُمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ، فَهَذَا إِثْبَاتٌ لِطُرُوءِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عُنْوَانًا لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ وَلِيُمَيِّزَهُمْ عَنْ مُشْرِكِي الْوَثَنِيِّينَ، وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ الشِّرْكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ قَدْ سَرَى مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عُرِفَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ بِنَبْذِ الْإِسْلَامِ أَلْبَتَّةَ كَطَوَائِفِ الْبَاطِنِيَّةِ (رَاجِعْ مَبَاحِثَ الشِّرْكِ فِي ص ٥٧، ٦٨ و٣٥٤ - ٣٦٠ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي وَفِي ص ٢٤، ٤٥، ٣٢٥، ٣٤٧ مِنْ جُزْئِهِ الثَّالِثِ، ٨٢ مِنْ جُزْئِهِ الْخَامِسِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ) وَبِإِثْبَاتِ الشِّرْكِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ وَضْعِ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مُحَاجَّتِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يُغُرَّنَّكُمُ انْتِمَاؤُكُمْ إِلَى الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ هَدَمْتُمْ أَسَاسَ دِينِهِمْ بِالشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
أَمَّا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ مَغْفِرَةِ الشِّرْكِ، فَهِيَ أَنَّ الدِّينَ إِنَّمَا شُرِعَ لِتَزْكِيَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَتَطْهِيرِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ، وَالشَّرَكُ هُوَ مُنْتَهَى مَا تَهْبِطُ إِلَيْهِ عُقُولُ الْبَشَرِ وَأَفْكَارُهُمْ وَنُفُوسُهُمْ، وَمِنْهُ تَتَوَلَّدُ جَمِيعُ الرَّذَائِلِ وَالْخَسَائِسِ الَّتِي تُفْسِدُ الْبَشَرَ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمْعِيَّاتِهِمْ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِمْ لِأَفْرَادٍ مِنْهُمْ أَوْ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ دُونَهُمْ أَوْ مِثْلُهُمْ إِلَى
مَرْتَبَةٍ يُقَدِّسُونَهَا وَيَخْضَعُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute