وَإِنَّمَا مَشِيئَتُهُ مُوَافِقَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَجَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى سُنَنِهِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ (تُرَاجَعُ الْفَهَارِسُ عِنْدَ مَادَّةِ مَشِيئَةٍ) وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا بِقَوْلِنَا: وَمَهْمَا أَذْنَبَ الْمُوَحِّدُونَ إِلَخْ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمَا يَشَاءُ غُفْرَانَهُ، وَلِسُنَنِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا سُنَنُهُ تَعَالَى فِيمَا لَا يَغْفِرُهُ مِنَ الذُّنُوبِ فَتَظْهَرُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، وَتِلْكَ هِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي لَا يَتُوبُ مِنْهَا صَاحِبُهَا وَلَا يُتْبِعُهَا بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي تُزِيلُ أَثَرَهَا السَّيِّئَ مِنَ النَّفْسِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ السَّيِّئُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الْعِقَابَ عَلَى الذُّنُوبِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرَتُّبِ آثَارِهَا فِي النَّفْسِ عَلَيْهَا كَمَا تُؤَثِّرُ الْحَرَارَةُ فِي الزِّئْبَقِ فِي الْأُنْبُوبَةِ فَيَتَمَدَّدُ وَيَرْتَفِعُ، وَتُؤَثِّرُ فِيهِ الْبُرُودَةُ فَيَتَقَلَّصُ وَيَنْخَفِضُ، فَهَذَا مِثَالُ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالسَّيِّئَةِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ (رَاجِعْ مَادَّةَ ذَنْبٍ وَعِقَابٍ وَجَزَاءٍ فِي فَهَارِسِ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ) .
وَقَدِ اضْطَرَبَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ عَلَى بَلَاغَتِهَا وَظُهُورِهَا أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ وَالْمَذَاهِبِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَلَمْ يَأْخُذُوهُ بِجُمْلَتِهِ وَيُفَسِّرُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، بَلْ نَظَرُوا فِي كُلِّ جُمْلَةٍ عَلَى حِدَّتِهَا، وَحَاوَلُوا حَمْلَهَا عَلَى مَقَالَاتِهِمْ كَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، فَهَذَا يَقُولُ: إِنَّ الشِّرْكَ وَغَيْرَ الشِّرْكِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمَا لَا يُغْفَرَانِ إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَهَذَا يَقُولُ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْعِقَابِ عَلَى الذُّنُوبِ وَجَوَازِ غُفْرَانِهَا كُلِّهَا مَا اجْتُنِبَ الشِّرْكُ، وَذَاكَ يَقُولُ: إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى هَذَا مُغْرِيَةً بِالْمَعَاصِي مُجَرِّئَةً عَلَيْهَا، وَالْآيَةُ فَوْقَ ذَلِكَ تُحَدِّدُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتْمًا لِإِفْسَادِهِ لِلنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَتُبَيِّنُ أَنَّ مَا عَدَاهُ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَتِهِ فِي إِفْسَادِ النَّفْسِ، فَمَغْفِرَتُهُ مُمْكِنَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، فَمِنْهُ
مَا يَكُونُ تَأْثِيرُهُ السَّيِّئُ فِي النَّفْسِ قَوِيًّا يَقْتَضِي الْعِقَابَ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ ضَعِيفًا يُغْفَرُ بِالتَّأْثِيرِ الْمُضَادِّ لَهُ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ ـ رَاجِعْ تَفْسِيرَ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ (٤: ١٧) ، إِلَخْ ص ٤٤٠ - ٤٥٢ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ.
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا هَذِهِ الْجُمْلَةُ تُشْعِرُ بِعِلَّةِ عَدَمِ غُفْرَانِ الشِّرْكِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ وَاجِبِ الْوُجُودِ قَيُّومِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ الَّذِي قَامَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ بِأَنْ يَجْعَلَ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً مَا مَعَهُ ـ دَعِ الْإِلْحَادَ بِإِنْكَارِ سُلْطَتِهِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ النِّظَامِ الْبَدِيعِ فِي الْكَوْنِ - سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الشَّرِكَةُ بِالتَّأْثِيرِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ، أَوْ بِالتَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، مَنْ يُشْرِكْ بِهِ فِي ذَلِكَ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا، أَيِ: اخْتَرَعَ ذَنْبًا مُفْسِدًا عَظِيمَ الْفُحْشِ وَالضَّرَرِ سَيِّئَ الْمَبْدَأِ وَالْأَثَرِ، تُسْتَصْغَرُ فِي جَنْبِ عَظَمَتِهِ جَمِيعُ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، فَيَكُونُ جَدِيرًا بِأَلَّا يُغْفَرَ وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ قَدْ يَمْحُوهُ الْغُفْرَانُ، وَالِافْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ فَرَى يَفْرِي، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ: الْقَطْعُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ وَالْإِفْسَادِ ; لِأَنَّ قَطْعَ الشَّيْءِ الصَّحِيحِ مُفْسِدٌ لَهُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute