بَلِ الْإِيهَامِ بِالنَّقْضِ بِلَا تَلَبُّثٍ وَلَا تَرَيُّثٍ، وَأَبْطَلَ مُرَاعَاةَ الظَّاهِرِ بَلْ حَوَّلَهَا إِلَى تَهَكُّمٍ بِالنَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ الَّذِي ذَهَبَ بِذَلِكَ الذَّمَاءِ، وَاسْتَبْدَلَ الْيَأْسَ بِالرَّجَاءِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ إِعْرَاضَكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، بَعْدَ سَمَاعِ هَذَا الْقُرْآنِ، الَّذِي أَفَاضَ الْعُلُومَ عَلَى أُمِّيٍّ لَمْ يَتَرَبَّ فِي مَعَاهِدِ الْعِلْمِ، وَأَظْهَرَ مُعْجِزَاتِ الْبَلَاغَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ مِنْهُ التَّبْرِيزُ بِهَا فِي نَثْرٍ وَلَا نَظْمٍ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّكُمْ تَدَّعُونَ اسْتِطَاعَةَ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَمَا أَنْتُمْ بِمُسْتَطِيعِينَ، وَلَوِ اسْتَعَنْتُمْ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) .
كَانَ يَتَحَدَّاهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ الصَّادِعَةِ الَّتِي تُثِيرُ النَّخْوَةَ، وَتُهَيِّجُ الْغَيْرَةَ مَعَ عُلُوِّ كَعْبِهِمْ فِي الْبَلَاغَةِ وَرُسُوخِ عِرْقِهِمْ فِي أَسَالِيبِهَا وَفُنُونِهَا، فِي عَصْرٍ ارْتَقَتْ فِيهِ دَوْلَةُ الْكَلَامِ ارْتِقَاءً لَمْ تَعْرِفْ مِثْلَهُ الْأَيَّامُ، حَتَّى كَانُوا يَتَبَارَوْنَ فِيهِ وَيَتَنَافَسُونَ، وَيُبَاهُونَ وَيُفَاخِرُونَ، وَيَعْقِدُونَ لِذَلِكَ الْمَجَامِعَ وَيُقِيمُونَ الْأَسْوَاقَ، ثُمَّ يَطِيرُونَ بِأَخْبَارِهَا فِي الْآفَاقِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَتَصَدَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِلْمُعَارَضَةِ، وَلَمْ يَنْهَضْ بَلِيغٌ
مِنْ مَصَاقِعِهِمْ إِلَى الْمُنَاهَضَةِ (أَقُولُ) بَلْ تَوَاتَرَ عَنْهُمْ مَا كَانَ ((مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِأَسَلَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَالْفَزَعِ إِلَى الْمُقَارَعَةِ بِأَسِنَّةٍ أَسَلِهِمْ)) وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ بِأَسْيَافِهِمْ، وَتَخْرِيبِ بُيُوتِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ، أَفَلَمْ يَكُنِ الْأَجْدَرُ بِمَدَارِهِ قُرَيْشٍ وَفُحُولِهَا، غُرَرِ بَنِي مَعَدٍّ وَحُجُولِهَا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَأْلِيفِ سُورَةٍ بِبَلَاغَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَبَارَوْنَ فِيهَا بِسُوقِ عُكَاظَ وَغَيْرِهَا مِنْ مَجَامِعِ مُفَاخَرَاتِهِمْ، وَيُؤْثِرُوا هَذَا عَلَى سَوْقِ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْخَمِيسِ مِنْ صَنَادِيدِهِمْ إِلَى يَثْرِبَ لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ آمَنَ بِهِ " رَضِيَ اللهُ عَنْهُ " فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَوَرَاءَ الْخَنْدَقِ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَطَاعًا لَهُمْ؟ وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِجِوَارِهِ فِي الْمَدِينَةِ فَأَمَّنَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا إِعَانَةَ مُشْرِكِي قَوْمِهِ عَلَيْهِ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى قِتَالِهِمْ، وَإِخْرَاجِ بَقِيَّةِ السَّيْفِ مِنْ دِيَارِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ هَذَا الْكَلَامَ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يَرْتَقِي الْبَشَرُ إِلَيْهَا، وَهُوَ - تَعَالَى جَدُّهُ - الْعَالِمُ بِمَبْلَغِ اسْتِطَاعَتِهِمْ، وَالْمَالِكُ لِأَعِنَّةِ قُدْرَتِهِمْ.
قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ: إِنَّنَا نَجِدُهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَلْتَزِمُونَ بِسَجْعِهِمْ وَإِرْسَالِهِمْ وَرَجَزِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، بَلْ جَاءَ عَلَى النَّمَطِ الْفِطْرِيِّ، وَالْأُسْلُوبِ الْعَادِيِّ الَّذِي يَتَسَنَّى لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَحْذُوَ مِثَالَهُ، وَلَكِنَّهُمْ عَجَزُوا فَلَمْ يَأْتُوا وَلَنْ يَأْتِيَ غَيْرُهُمْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، ثُمَّ نُلَاحِظُ أَيْضًا: أَنَّ الْقُرْآنَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ قَدْ تَحَدَّى بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْعَرَبِ، عَلَى تَفَرُّقِ دِيَارِهِمْ، وَتَنَائِي أَقْطَارِهِمْ، وَأَرْسَلَ الرَّسُولُ إِلَى الْأَطْرَافِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَعَمَّتِ الدَّعْوَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute