فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ (٢: ١٠٩) ، وَفِي سُورَةِ الْفَلَقِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ هُمُ الْيَهُودُ، فَهُوَ لَمْ يُسْنِدِ الْحَسَدَ إِلَى غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ ـ وَقَدْ سُلِبَ مِنْهُمُ الْمُلْكُ ـ يَتَمَنَّوْنَ عَوْدَتَهُ إِلَيْهِمْ وَقَدْ كَبُرَ عَلَيْهِمْ أَنْ تَسْبِقَهُمُ الْعَرَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنِ النَّصَارَى يَوْمَئِذٍ يَحْسُدُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَتِّعُونَ بِمُلْكٍ وَاسِعٍ، وَلَا مُشْرِكُو الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ النُّبُوَّةَ الَّتِي قَامَ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَقٌّ، وَلَا أَنَّهَا تَسْتَتْبِعُ مُلْكًا؛ فَإِنَّ مَنْ ظَهَرَ لَهُ حَقِّيَّةُ الدَّعْوَةِ صَارَ مُسْلِمًا، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ مِمَّنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ حَقِّيَّةُ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ، وَمَنَعَ الْحَسَدُ بَاقِيَ الرُّؤَسَاءِ أَنْ يُؤْمِنُوا وَتَبِعَهُمُ الْعَامَّةُ تَقْلِيدًا لَهُمْ، وَقَلَّمَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُمْ مِثْلُ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ، فَالْحَسُودُ يُؤْثِرُ هَلَاكَ نَفْسِهِ عَلَى انْقِيَادِهَا لِمَنْ يَحْسُدُهُ؛ لِأَنَّ الْحَسَدَ يُفْسِدُ الطِّبَاعَ، وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ حَسَدُوهُ وَحَسَدُوا قَوْمَهُ الْعَرَبَ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ وَهُمْ أَسْبَقُ إِلَى الْخَيْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ.
وَرَدَ فِي بَعْضِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ لَمْ يَجِدُوا مَطْعَنًا يَقُولُونَهُ فِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَّا تَعَدُّدَ أَزْوَاجِهِ، وَقِيلَ: حَسَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآيَةُ تَرُدُّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَنْبِيَائِهِمْ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ كَانَ لَهُمْ أَزْوَاجٌ كَثِيرَةٌ، كَمَا رَدَّ عَلَيْهِمُ اسْتِبْعَادَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُلْكُ فِي غَيْرِ آلِ إِسْرَائِيلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى آلَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْحَاقَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالنُّبُوَّةَ فَضْلًا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَقٌّ عَلَيْهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ يُعْطَى ذَلِكَ لِآلِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَا حَجْرَ عَلَى فَضْلِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْفَضْلُ الْإِلَهِيُّ لَا يَنَالُهُ إِلَّا مَنْ لَهُ سَلَفٌ فِيهِ، فَلِلْعَرَبِ هَذَا السَّلَفُ ; عَلَى أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ وَإِلَّا لَكَانَتْ هَذِهِ الْعَطَايَا قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا، وَلَوْ كَانَ أَزَلِيًّا لَمَا أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ فُرُوعِهِ أَزَلِيَّةً، فَإِيتَاءُ اللهِ تَعَالَى بَعْضَ الْبَشَرِ الْفَضْلَ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضِ الِاخْتِصَاصِ وَالِاخْتِيَارِ وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَزَايَا وَفَضَائِلَ فِيمَنْ يُعْطِيهِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كُلُّ مَنْ يَكْتَسِبُ مِثْلَ تِلْكَ الْمَزَايَا مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْفَضْلِ، وَالنُّبُوَّةِ وَمُقَدَّمَاتِهَا بِمَحْضِ الِاخْتِصَاصِ.
أَمَّا كَثْرَةُ النِّسَاءِ، لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ (ص) وَأَنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ فَكَيْفَ يَسْتَنْكِرُ أَتْبَاعُهُمَا أَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تِسْعُ نِسْوَةٍ، وَقَدْ تَزَوَّجَ أَكْثَرَهُنَّ لِحِكَمٍ وَأَسْبَابٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ، وَفِي سِفْرِ الْمُلُوكِ مِنْ كِتَابِهِمُ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ: ١١: ١ وَأَحَبَّ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كَثِيرَةً مَعَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ مُوآبِيَاتٍ وَعَمُونِيَاتٍ وَأَدُومِيَاتٍ وَصَيْدُونِيَاتٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute