للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأَجْسَامِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ إِعْدَامِهَا، وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِ مِثْلِهَا وَفَنَاءِ الْأُولَى، وَلَا أَرَى بَأْسًا ـ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ ـ فِي اعْتِقَادِ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ اهـ، وَلَهُ الْحَقُّ فِي رَدِّ الْإِيرَادِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَقَلَّ فِي بَعْضِ الْقَوْلِ وَقَلَّدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي بَعْضٍ آخَرَ كَإِعَادَةِ الْمَعْدُومِ، وَلِهَذَا الْبَحْثِ مَوْضِعٌ آخَرُ نُحَرِّرُهُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الَّتِي تَذُوقُ الْعَذَابَ كَلِمَةُ (لِيَذُوقُوا) وَلَمْ يَقِلْ " لِتَذُوقَ " أَيِ الْجُلُودُ.

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ إِشْكَالًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ تَنَاوُلُ شَيْءٍ قَلِيلٍ بِالْفَمِ لِيُعْرَفَ طَعْمُهُ فَلَا يُتَجَوَّزُ بِهِ عَنِ الْعَذَابِ الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ أَوْ أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَأَجَابَ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ إِحْسَاسَهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ كَإِحْسَاسِ الذَّائِقِ الْمَذُوقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ نُقْصَانٌ وَلَا زَوَالٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاحْتِرَاقِ اهـ.

وَلَسْتُ أَدْرِي مَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْعَذَابِ يُسَمَّى أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ قَلِيلًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ " يَذُوقُوا " وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْقُرْآنُ لَفْظَ الذَّوْقِ فِي الْعَذَابِ كَثِيرًا! فَاخْتِيَارُهُ مَقْصُودٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْأَشَدُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ، فَمَهْمَا كَانَ عَذَابُ الْآخِرَةِ فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ نَاجُونَ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونَ عَذَابُ الْمُعَذَّبِينَ شَدِيدًا بَالِغًا مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ مِنَ الشِّدَّةِ

كَأَنَّهُمْ حُرِمُوا مِنْ ذَوْقِ طَعْمِ الرَّحْمَةِ ; عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِيَدِهِمْ مَوْثِقٌ مِنَ اللهِ بِنَجَاتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ.

إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا، أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ فِي فِعْلِهِ، فَكَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ، وَجَعَلَ سُنَّتَهُ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا مُطَّرِدَةً لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَغْلِبَهُ فَيَبْطُلَ اطِّرَادُهَا؛ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغْلَبُ عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا جُعِلَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ سَبَبًا لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا جَعَلَ دُخُولَ الْجَنَّةِ جَزَاءَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ; إِذِ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ عَمَلٍ صَالِحٍ لَا يَكْفِي لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِعْدَادِهَا لِهَذَا الْجَزَاءِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ الْإِيمَانُ بِغَيْرِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمَرْءُ عَقِبَ إِيمَانِهِ فَلَا يَتَّسِعُ الْوَقْتُ لِظُهُورِ آثَارِ الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتِهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّ " سَوْفَ " أَبْلَغُ مِنَ " السِّينِ " فِي التَّنْفِيسِ وَسِعَةِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْمُضَارِعِ الَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَيَرَى ابْنُ هِشَامٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَاعِدَةِ دَلَالَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَلَمَّا كَانَتْ سَوْفَ أَكْثَرَ حُرُوفًا كَانَ مَعْنَاهَا فِي الِاسْتِقْبَالِ أَوْسَعَ، وَلَا يَدَ عَلَى هَذَا مِنْ نُكْتَةٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ جَزَاءِ أَهْلِ النَّارِ بِقَوْلِهِ: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ وَعَنْ جَزَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: سَنُدْخِلُهُمْ وَكَأَنَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى بِالْفَرِيقَيْنِ يُعَجِّلُ لِأَهْلِ النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>