مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْإِفْتَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ مِثْلَ هَذَا مَنْ قَالَهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا عِنْدَ وُقُوعِ الْوَقَائِعِ، فَأَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا يَسَعُ النَّاسَ جَهْلُهُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْوَاجِبَاتِ وَأَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ فِيهِ هَذَا الشَّرْطَ ; وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالِاسْتِفْتَاءِ، وَالْمَجْهُولُ لَا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، أَفَيُتْرَكُ الْجَاهِلُونَ بِالسُّنَنِ الْعَامِلُونَ بِالْبِدَعِ حَتَّى يَطْرُقُوا أَبْوَابَ الْعُلَمَاءِ فِي بُيُوتِهِمْ أَوْ مَدَارِسِهِمْ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ؟ !
وَلَا يَخْرُجُ عُلَمَاءُ الدِّينِ مِنْ تَبِعَةِ الْكِتْمَانِ وَالْخِيَانَةِ فِي أَمَانَةِ اللهِ بِتَصَدِّيهِمْ لِتَدْرِيسِ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْعَقَائِدِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ لَا تَفْهَمُهَا الْعَامَّةُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا مَعْرِفَتُهَا ; لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِلْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِلْمِ يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى الْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا كُلُّ النَّاسِ دَائِمًا، وَمِنْهَا مَا تَمُرُّ الْأَعْصَارُ وَلَا يَقَعُ، بَلْ مِنْهَا مَا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ، فَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَصَدَّوْا لِتَعْلِيمِ الْجُمْهُورِ مَا لَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَهْلُهُ وَأَنْ يَأْمُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ وَأَسْهَلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِبَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الشَّاعِرِ الَّذِي قَالَ:
لَوْ صَحَّ مِنْكَ الْهَوَى أُرْشِدْتَ لِلْحِيَلِ
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا: وَكَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ، وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ لَهُ طُرُقٌ: مِنْهَا الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ وَالْقَضَاءُ، وَمِنْهَا تَحْكِيمُ الْمُتَخَاصِمِينَ لِشَخْصٍ فِي قَضِيَّةٍ خَاصَّةٍ، فَكُلُّ
مَنْ يَحْكُمُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالْعَدْلِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (١٦: ٩٠) ، الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (٥: ٨) ، وَقَوْلُهُ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ (٤: ١٣٥) ، وَنَهَى عَنِ الظُّلْمِ وَأَوْعَدَ عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا حَدَّ الْعَدْلِ وَلَا تَفْسِيرَهُ وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ تَفْسِيرٌ لَهُ أَيْضًا، وَالْعَدْلُ وَقْفٌ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ لِيَكُونَ الْفَصْلُ بَيْنَ النَّاسِ بِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (٥: ١) ، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُوَفِّيَ بِمَا نَتَعَاقَدُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (٢: ١٨٨) ، الْآيَةَ، وَهُوَ قَدْ حَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَرِشْوَةَ الْحُكَّامِ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ مِنْ أَحْكَامِهِ وَقَضَائِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ تَطْبِيقُ أَحْكَامِهِ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّطْبِيقُ ظَاهِرًا، وَقَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى قِيَاسٍ وَاسْتِنْبَاطٍ وَإِجْهَادٍ لِلْفِكْرِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعَدْلِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَنْبِيهِ النَّاسِ وَتَذْكِيرِهِمْ.
وَالرُّكْنُ الثَّانِي لِلْعَدْلِ - هَكَذَا عَبَّرَ تَارَةً بِالنَّوْعِ وَتَارَةً بِالرُّكْنِ - يَتَأَلَّفُ مِنْ أَمْرَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) : فَهْمُ الدَّعْوَى مِنَ الْمُدَّعِي وَالْجَوَابِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَعْرِفَ مَوْضِعَ مَا بِهِ التَّنَازُعُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute