الْأَمَانَةِ، فَإِنْ خَزِيَتْ أَمَانَةُ أُولَئِكَ الرِّجَالِ وَهُمْ أَرْكَانُ الدَّوْلَةِ سَقَطَ بِنَاءُ السُّلْطَةِ وَسُلِبَ الْأَمْنُ، وَرَاحَتِ الرَّاحَةُ مِنْ بَيْنِ الرَّعَايَا كَافَّةً وَضَاعَتْ حُقُوقُ الْمَحْكُومِينَ، وَفَشَا فِيهِمُ الْقَتْلُ وَالتَّنَاهُبُ وَوَعِرَتِ طُرُقُ التِّجَارَةِ، وَتَفَتَّحَتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَخَوَتْ خَزَائِنُ الْحُكُومَةِ، وَعُمِّيَتْ عَلَى الدَّوْلَةِ سُبُلُ النَّجَاحِ ; فَإِنْ حَزَبَهَا أَمْرٌ سُدَّتْ عَلَيْهَا نَوَافِذُ النَّجَاةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْمًا يُسَاسُونَ بِحُكُومَةٍ خَائِنَةٍ، إِمَّا أَنْ يَنْقَرِضُوا بِالْفَسَادِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُمْ جَبَرُوتُ أُمَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُمْ يَسُومُونَهُمْ خَسْفًا، وَيَسْتَبِدُّونَ فِيهِمْ عَسْفًا فَيَذُوقُونَ مِنْ مَرَارَةِ الْعُبُودِيَّةِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ مَرَارَةِ الِانْقِرَاضِ وَالزَّوَالِ.
" وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ اسْتِعْلَاءَ قَوْمٍ عَلَى آخَرِينَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاتِّحَادِ آحَادِ الْعَامِلِينَ وَالْتِئَامِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِبِنْيَةِ قَوْمِهِ كَالْعُضْوِ لِلْبَدَنِ، وَلَنْ يَكُونَ هَذَا الِاتِّحَادُ حَتَّى تَكُونَ الْأَمَانَةُ قَدْ مَلَكَتْ قِيَادَهُمْ، وَعَمَّتْ بِالْحُكْمِ أَفْرَادَهُمْ.
" فَقَدْ كَشَفَ الْحَقُّ أَنَّ الْأَمَانَةَ دِعَامَةُ بَقَاءِ الْإِنْسَانِ، وَمُسْتَقَرُّ أَسَاسِ الْحُكُومَاتِ، وَبَاسِطُ ظِلَالِ الْأَمْنِ وَالرَّاحَةِ، وَرَافِعُ أَبْنِيَةِ الْعِزِّ وَالسُّلْطَانِ، وَرُوحُ الْعَدَالَةِ وَجَسَدُهَا، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِدُونِهَا.
" وَإِلَيْكَ الِاخْتِيَارُ فِي فَرْضِ أُمَّةٍ عَطَّلَتْ نُفُوسَهَا مِنْ حِلْيَةِ هَذِهِ الْخَلَّةِ الْجَلِيلَةِ، فَلَا تَجِدُ فِيهَا إِلَّا آفَاتٍ جَائِحَةً وَرَزَايَا قَاتِلَةً، وَبَلَايَا مُهْلِكَةً، وَفَقْرًا مُعْوِزًا، وَذُلًّا مُعْجِزًا، ثُمَّ لَا تَلْبَثُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْ تَبْتَلِعَهَا بَلَالِيعُ الْعَدَمِ، وَتَلْتَهِمَهَا أُمَّهَاتُ اللهِيمِ اهـ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْعَدْلِ وَالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (١٦: ٩٠) ، وَقَوْلِهِ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٩: ٩) ، وَالْإِقْسَاطُ هُوَ: الْعَدْلُ، وَقَوْلُهُ آمِرًا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُبَلِّغَهُ لِلنَّاسِ: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنِكُمْ (٤٢: ١٥) ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا (٤: ١٣٥) ، الْآيَةَ، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٥: ٨) ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِ الْأَحَادِيثِ هُنَا وَلَا الْآيَاتِ الْمُحَرِّمَةِ لِلظُّلْمِ الْمُتَوَعِّدَةِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْمُسْلِمُونَ مَأْمُورُونَ بِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى (٦: ١٥٢) ، وَهَذَا الْأَمْرُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْحُكَّامِ وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أَيْ نِعْمَ الشَّيْءُ الَّذِي يَعِظُكُمْ بِهِ وَهُوَ هُنَا: أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute