للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَصْلٌ فِي تَحْقِيقِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ

بِمُنْتَهَى الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ

إِعْجَازُ الْقُرْآنِ: قَدْ ثَبَتَ بِالْفِعْلِ، وَتَوَاتَرَ فِيهِ النَّقْلُ، وَحَسْبُكَ مِنْهُ وُجُودُ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَصَاحِفِ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا، وَوُجُودُ الْأُلُوفِ مِنْ حُفَّاظِهِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَهِيَ تَحْكِي لَنَا هَذِهِ الْآيَاتُ فِي التَّحَدِّي بِإِعْجَازِهِ، وَلَوْ وُجِدَ لَهُ مُعَارِضٌ أَتَى بِسُورَةٍ مِثْلِهِ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا بِالتَّوَاتُرِ أَيْضًا، بَلْ لَكَانَتْ فِتْنَةً ارْتَدَّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ.

وَلَمَّا كَانَ إِعْجَازُهُ لِمَزَايَا فِيهِ تَعْلُو قُدْرَةَ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا وَحُكْمًا، وَبَيَانًا لِلْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، حَارَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ الَّذِي بَلَغَ حَدَّ الضَّرُورَةِ فِي ظُهُورِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ إِعْجَازَهُ بِالصَّرْفَةِ، يَعْنُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَ قُدْرَةَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ عَنِ التَّوَجُّهِ لِمُعَارَضَتِهِ فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهَا سَبِيلًا، ثُمَّ تَسَلْسَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ وَاسْتَمَرَّ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا، وَهَذَا رَأْيُ كَسُولٍ أَحَبَّ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ مِنْ عَنَاءِ الْبَحْثِ وَإِجَالَةِ قَدَحِ الْفِكْرِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَلِلْبَاحِثِينَ فِيهِ أَقْوَالٌ كُتِبَتْ فِيهَا فُصُولٌ وَأُلِّفَتْ فِيهَا رَسَائِلُ وَكُتُبٌ، وَقَدْ عَقَدْتُ هَذَا الْفَصْلَ عِنْدَ طَبْعِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِبَيَانِهَا وَإِيضَاحِهَا، لِمَا عَلِمْتُ مِنْ شِدَّةِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ إِلَيْهَا، دَعْ أَمْرَ دَعْوَةِ غَيْرِهِمْ أَوِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِهَا.

إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ:

(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : اشْتِمَالُهُ عَلَى النَّظْمِ الْغَرِيبِ وَالْوَزْنِ الْعَجِيبِ، وَالْأُسْلُوبِ الْمُخَالِفِ لِمَا اسْتَنْبَطَهُ الْبُلَغَاءُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَطَالِعِهِ وَفَوَاصِلِهِ وَمَقَاطِعِهِ، هَذِهِ عِبَارَتُهُمْ وَأَوْرَدُوا عَلَيْهَا شُبْهَتَيْنِ وَأَجَابُوا عَنْهُمَا، وَحَصَرُوا نَظْمَ الْكَلَامِ مَنْثُورَهُ مُرْسَلًا وَسَجْعًا، وَمَنْظُومَهُ قَصِيدًا وَرَجَزًا فِي أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ، لَا يُمْكِنُ عَدُّ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ

وَاحِدًا مِنْهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَكْبَرِ بُلَغَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ عَانَدُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَادَوْهُ اسْتِكْبَارًا، وَجَاحَدُوهُ اسْتِعْلَاءً وَاسْتِنْكَارًا، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>