فَيُعْمَلُ بِمَا يَتَّفِقُ مَعَهُمَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ لَيْسَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ رَأْيِ الْأَقَلِّينَ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ حَيْثُ يَتَكَوَّنُ الْأَكْثَرُ مِنْ حِزْبٍ يَنْصُرُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَتَوَاضَعُونَ عَلَى اتِّبَاعِ أَقَلِّهِمْ لِأَكْثَرِهِمْ فِي خَطَئِهِمْ، فَإِذَا كَانَ أَعْضَاءُ الْمَجْلِسِ مِائَتَيْنِ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ يَتَّبِعُونَ حِزْبًا مِنَ الْأَحْزَابِ، وَأَرَادَ زُعَمَاءُ هَذَا الْحِزْبِ تَقْرِيرَ مَسْأَلَةٍ، فَإِذَا أَقْنَعُوا بِالدَّلِيلِ أَوِ النُّفُوذِ سِتِّينَ مِنْهُمْ يَتْبَعُهُمُ الْخَمْسُونَ الْآخَرُونَ وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ خَطَأَهُمْ، فَإِذَا خَالَفَهُمْ سَائِرُ أَهْلِ الْمَجْلِسِ يَكُونُ عَدَدُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ بُطْلَانَ الْمَسْأَلَةِ ١٤٠ وَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ حَقِيقَتَهَا سِتُّونَ، وَهُمْ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ وَتُنَفِّذُ بِرَأْيِهِمْ.
الْأَكْثَرِيَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحَقِّيَّةَ وَالْإِصَابَةَ فِي الْحُكْمِ، وَلَا هِيَ بَالَتِي تَطْمَئِنُّ الْأُمَّةُ إِلَى رَأْيِهَا، فَرُبَّمَا كَانَ الْأَكْثَرُونَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ مَسْأَلَةً مَالِيَّةً أَوْ عَسْكَرِيَّةً مَثَلًا لَيْسَ
فِيهِمُ الْعَدَدُ الْكَافِي مِنَ الْعَارِفِينَ بِهَا، فَيَظْهَرُ لِلْجُمْهُورِ خَطَؤُهَا فَتَتَزَلْزَلُ ثِقَتُهُ بِمَجْلِسِ الْأُمَّةِ وَيُفْتَحُ بَابُ الْخِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ، وَيُخْشَى أَنْ تَتَأَلَّفَ الْأَحْزَابُ لِلْمُقَاوَمَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُكْرَهَ الْجُمْهُورُ الْمُخَالِفُ عَلَى الْقَبُولِ إِكْرَاهًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْحُكْمُ لِلْعَصَبِيَّةِ الْغَالِبَةِ، لَا لِلْأُمَّةِ الْمُتَّحِدَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَتَطَّلَعَ رُؤُوسُ الْفِتَنِ وَهَذَا مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ وَسَدُّ ذَرِيعَتِهِ فِي أَسَاسِ الْحُكْمِ وَأُصُولِ السُّلْطَةِ، لِئَلَّا تَهْلِكَ الْأُمَّةُ بِقِيَامِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَيَكُونَ بَأْسُهَا بَيْنَهَا شَدِيدًا فَيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ الْأَعْدَاءُ مِنْ مَقَاتِلِهَا، وَقَدْ نُهِينَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالْخِلَافِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ هَذَا الْبَلَاءِ.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا حِكْمَةُ عَرْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَنَازَعُ فِيهَا أُولُو الْأَمْرِ عَلَى جَمَاعَةٍ يَرُدُّونَهَا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَحْكُمُونَ فِيهَا بِقَوَاعِدِهِمَا الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، فَإِنَّ الْأُمَّةَ كُلَّهَا تَرْضَى بِفَصْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَمَا تُؤَيِّدُهُ بِدَلِيلِهِ، وَهَلْ تَكُونُ هَذِهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ فَقَطْ أَمْ مِنْ طَبَقَاتِ أُولِي الْأَمْرِ الْمُخْتَلِفَةِ؟ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أُولُو الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ أُولُو الْأَمْرِ مُخَيَّرِينَ فِي طَرِيقَةِ رَدِّ الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِوَسَاطَةِ بَعْضٍ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِنِ اتَّضَحَ الْأَمْرُ بِرَدِّهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِوُضُوحِ دَلِيلِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ حَتْمًا، وَإِلَّا كَانَ الْمُرَجَّحُ هُوَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فِي تَرْجِيحِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ بِبَدْرٍ وَأُحُدٍ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يُبْنَى تَرْجِيحُهُ؟ الَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَجَّحَ فِي أُحُدٍ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ مُخَالِفًا لِرَأْيهِ، وَرَجَّحَ فِي بَدْرٍ الرَّأْيَ الْمُوَافِقَ لِرَأْيِهِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَكْثَرِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَ الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَلَا مَجَالَ فِي هَذَا لِلتَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمْ غَيْرُ أُولِي الْأَمْرِ أَيِ الْعَامَّةُ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute