للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كُلَّ الْأُمَّةِ، أَيْ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَأَصْحَابُ الِاعْتِبَارِ وَالْآرَاءِ، فَالْمُرَادُ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَهُوَ الْمُدَّعَى.

قَالَ: وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ رَدِّهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ رَدَّهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

وَالْإِجْمَاعِ وَإِلَّا كَانَ تَكْرَارًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَفْوِيضَ عِلْمِهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَالسُّكُوتَ عَنْهُ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَةَ رُبَّمَا كَانَتْ لَا تَحْتَمِلُ الْإِهْمَالَ وَتَفْتَقِرُ إِلَى قَطْعِ مَادَّةِ الشَّغَبِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، وَلَا الْإِحَالَةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ بِحُكْمِ الْعَقْلِ، فَالرَّدُّ إِلَيْهَا لَا يَكُونُ رَدًّا إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، فَإِذَا رَدَّهَا إِلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِيَاسِ.

" فَحَاصِلُ الْآيَةِ الْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِطَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ لِمَنْ عَدَا الرَّسُولَ بِطَاعَتِهِ، ثُمَّ لِمَا سِوَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِطَاعَتِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ أَهْلَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَدَارِكِهَا ـ إِنْ وَقَعَ اخْتِلَافٌ وَاشْتِبَاهٌ فِي النَّاسِ فِي حُكْمِ وَاقِعَةٍ مَا ـ أَنْ يَسْتَخْرِجُوا لَهَا وُجُوهًا مِنْ نَظَائِرِهَا وَأَشْبَاهِهَا، فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ "، انْتَهَى كَلَامُ النَّيْسَابُورِيِّ، وَالْأَظْهَرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ رَدَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ يَتَحَقَّقُ بِعَرْضِهِ عَلَى مَا فِيهِمَا مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ كَالْيُسْرِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَا يُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، وَكَمَنْعِ الضَّرَرِ وَالضِّرَارِ، وَكَوْنِ الْمَحْظُورِ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَالْمَحْظُورِ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا، وَيَلِي هَذَا عَرْضُ الْجُزْئِيَّاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ عَلَى أَشْبَاهِهَا، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّدِّ هُنَا: رَدُّ مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ أُولُو الْأَمْرِ، وَأَمَّا مَا يَتَنَازَعُ فِيهِ غَيْرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ فَيُرَدُّ إِلَيْهِمْ عَمَلًا بِآيَةِ الِاسْتِنْبَاطِ [٤: ٨٣] .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْإِجْمَاعُ وَالِاجْتِهَادُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:

قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْآيَةَ حُجَّةً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَرَأَيْتَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُمَثِّلُونَ الْأُمَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ صَرَّحُوا مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْأُصُولِيُّ فَمَا هُوَ تَعْرِيفُهُ؟

الْإِجْمَاعُ فِي اصْطِلَاحِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ: " هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهَدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَا فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ أَيِّ أَمْرٍ كَانَ، فَلَا عِبْرَةَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَوِ الْأَكْثَرَ، وَلَا بِاتِّفَاقِ الْمُقَلِّدِينَ، وَلَا بِاتِّفَاقِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، كَالَّذِينِ يَكْفُرُونَ بِبِدْعَتِهِمْ، وَالَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْإِسْلَامَ جِنْسِيَّةً لَهُمْ لَا دِينًا، فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ عَصْرًا خَلَا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ (كَمَا يَقُولُ

جَمَاهِيرُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَى السُّنَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ) ، وَاتَّفَقَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ عَلَى حُكْمٍ فِي وَاقِعَةٍ عَرَضَتْ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ شَرْعِيٌّ فَإِنَّ اتِّفَاقَهُمْ كُلِّهِمْ لَا يُعَدُّ إِجْمَاعًا، وَرُبَّمَا يَقُولُ مُتَفَقِّهَتُنَا: إِنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ كُلُّهُمْ عُصَاةً لِلَّهِ تَعَالَى بِاجْتِهَادِهِمْ هَذَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ الْمُتَنَطِّعُ مِنْ هَؤُلَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>