السَّاعَةِ، وَإِنَّ خُرُوجَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ يَدِ أَهْلِهِ ـ الْقَادِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ كَمَا يَجِبُ ـ سَبَبٌ لِفَسَادِ أَمْرِهِمْ وَمُدْنٍ لِلسَّاعَةِ الَّتِي يَهْلِكُونَ فِيهَا بِالظُّلْمِ، أَوْ بِخُرُجِ الْأَمْرِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ رَاجَعْتُ مُفْرِدَاتِ الرَّاغِبِ فَرَأَيْتُ لَهُ فِي تَفْسِيرِ السَّاعَاتِ تَقْسِيمًا ثُلَاثِيًّا: السَّاعَةُ الْكُبْرَى بَعْثُ النَّاسِ لِلْحِسَابِ، وَالْوُسْطَى مَوْتُ أَهْلِ الْقَرْنِ الْوَاحِدِ، وَالصُّغْرَى مَوْتُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ، وَحُمِلَ عَلَى الْأَخِيرِ بَعْضُ الْآيَاتِ.
تَوْسِيدُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَمْرَهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِاخْتِيَارِهَا، وَهِيَ عَالِمَةٌ بِحُقُوقِهَا قَادِرَةٌ عَلَى جَعْلِهَا حَيْثُ جَعَلَهَا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُسْلِبُهَا الْمُتَغَلِّبُونَ هَذَا الْحَقَّ بِجَهْلِهَا وَعَصَبِيَّتِهِمُ الَّتِي يَعْلُو نُفُوذُهَا نُفُوذَ أُولِي الْأَمْرِ، حَتَّى لَا يَجْرُؤَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ، أَوْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلسَّجْنِ أَوِ النَّفْيِ أَوِ الْقَتْلِ.
هَذَا مَا كَانَ وَهَذَا هُوَ سَبَبُ سُقُوطِ تِلْكَ الْمَمَالِكِ الْوَاسِعَةِ، وَذَهَابِ تِلْكَ الدُّوَلِ الْعَظِيمَةِ وَوُقُوعِ مَا بَقِيَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ وِصَايَةِ الدُّوَلِ الْعَزِيزَةِ، الَّتِي لَمْ تَعْتَزَّ وَتَقْوَ إِلَّا بِجَعْلِ أَمْرِهَا بِيَدِ الْأُمَّةِ، وَتَوْسِيدِ هَذَا الْأَمْرِ إِلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ هُوَ الَّذِي تَرَكَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ إِرْشَادِ دِينِهِمْ، وَمَا تَيَسَّرَ لَهُمْ تَرْكُ أُصُولِ الشُّورَى وَتَقْدِيسِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ إِلَّا فِي الزَّمَنِ الطَّوِيلِ بَعْدَ أَنْ حَجَبُوا الْأُمَّةَ عَنْ كِتَابِ رَبِّهَا وَسُنَّةِ نَبِيِّهَا فَجَهِلَتْ حُقُوقَهَا، ثُمَّ أَفْسَدُوا عَلَيْهَا بَعْضَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهَا، وَأَسْقَطُوا قِيمَةَ الْآخَرِينَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَكَايِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
نَعَمْ، كَانَ الْجَهْلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الَّذِي مَكَّنَ لِأَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّدْرِيجِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْعَصَبِيَّةِ قَرِيبًا مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي احْتِرَامِ أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ لِدِينِهِمْ وَعِلْمِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَقْوَى الْعَصَبِيَّةُ عَلَيْهِمْ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَخْبَارِ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ بَعْدَهُ، دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَجِيرُ، فَقَالُوا: قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ
أَيُّهَا الْأَجِيرُ، فَأَعَادُوا قَوْلَهُمْ وَأَعَادَ قَوْلَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: دَعُوا أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، وَنَظَمَ ذَلِكَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّي فَقَالَ:
مُلَّ الْمُقَامُ فَكَمْ أُعَاشِرُ أُمَّةً ... أَمَرَتْ بِغَيْرِ صَلَاحِهَا أُمَرَاؤُهَا
ظَلَمُوا الرَّعِيَّةَ وَاسْتَجَازُوا كَيْدَهَا ... فَعَدَوْا مَصَالِحَهَا وَهُمْ أُجَرَاؤُهَا
وَقَدْ عُنِيَ الْمُلُوكُ الْمُسْتَبِدُّونَ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَذْبِ الْعُلَمَاءِ إِلَيْهِمْ بِسَلَاسِلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرُّتَبِ وَالْمَنَاصِبِ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ أَشَدَّ انْجِذَابًا، وَقَضَى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.
وَضَعَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ الرَّسْمِيُّونَ قَاعِدَةً لِأُمَرَائِهِمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ هَدَمُوا بِهَا الْقَوَاعِدَ الَّتِي قَامَ بِهَا أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ كَالْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ فَاقِدِينَ لِلشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا وَاشْتِرَاطِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِنْ صَرَّحَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute