للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِلْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا

قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (٥: ١٠١، ١٠٢) ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْعَفْوِ وَتَأْكِيدُهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْحِلْمِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ شَبِيهًا بِالْمَنْصُوصِ، بِحَيْثُ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ حِينَ كَانَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ ـ أَيْ وَقْتَ شُرِّعَ الدِّينُ لَكَانَ الْجَوَابُ إِلْحَاقَهُ بِالْمَنْصُوصِ وَزِيَادَةَ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَإِنَّمَا سَكَتَ اللهُ عَنْهُ عَفْوًا مِنْهُ تَعَالَى وَرَحْمَةً بِنَا، وَلِنُفَاةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَقُولُوا: وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ، وَتَفْسِيرُ رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ بِهِ بَاطِلٌ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ وَالْأَحَادِيثَ خَاصَّةٌ بِأَمْرِ الدِّينِ الْمَحْضِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِحَيْثُ يَزِيدُ فِيهَا عِبَادَةً، أَوْ يُحَرِّمُ شَيْئًا لَا يَدُلُّ النَّصُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَجَرَّأَ عَلَيْهِ الْكَثِيرُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، فَكَمْ قَالُوا ـ وَلَا نَزَالُ نَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ ـ هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ، بِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ وَالتَّهَجُّمَ عَلَى شَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إِلَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يَأْخُذُ الْإِسْلَامَ عَنْهُمْ يَرَاهُ غَيْرَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ الْيُسْرِ وَمُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ، يَرَاهُ دِينًا لَا يَكَادُ يُحْتَمَلُ مِنْ شِدَّةِ الضِّيقِ وَالْعُسْرِ وَكَثْرَةِ التَّكَالِيفِ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي قَدْ تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الْإِذْنِ بِهِ فَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ الَّتِي فَوَّضَ اللهُ تَعَالَى الِاجْتِهَادَ فِيهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ ; لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ كُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهَا بِالنُّصُوصِ.

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي زَعْمِ بَعْضِ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ:

هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَظْهَرُ مِنْ سَابِقَتِهَا فِي جَعْلِ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى ضِدِّ الْمُرَادِ مِنْهَا فَإِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِأَرْكَانِ الِاجْتِهَادِ وَشَارِعَةٌ لَهُ، وَقَدْ جَعَلَهَا بَعْضُ الْجَاهِلِينَ حُجَّةً عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ، فَزَعَمُوا أَنَّ تَفْسِيرَ أُولِي الْأَمْرِ بِالْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّ الَّذِينَ فَسَّرُوا بِذَلِكَ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، لَا أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ مُجْتَهِدٍ يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ، فَإِنَّ طَاعَةَ أَفْرَادِ الْمُجْتَهِدِينَ تَتَعَارَضُ بِاخْتِلَافِهِمْ، وَطَاعَةَ الْجَمِيعِ إِذَا أَجْمَعُوا هِيَ الْمُمْكِنَةُ، عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ غَيْرُ الِاتِّبَاعِ، قَالَ صَاحِبُ " فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ " مَا نَصُّهُ:

" وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُقَلِّدَةُ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالُوا: وَأُولُو الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِهَا قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْأُمَرَاءُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ـ أَيْ مَعًا ـ وَلَكِنْ أَيْنَ هَذَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مُرَادِ الْمُقَلِّدِينَ؟ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا إِذَا أَمَرُوا بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى وَفْقِ سُنَّةِ رَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>