للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَطْهِيرِ نُفُوسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ ذَنْبِ الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ، وَلَوْ عَمِلُوا كُلَّ صَالِحٍ وَضَعُفَتْ نُفُوسُهُمْ عَنِ الْقِتَالِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مُكَفِّرًا

لِخَطِيئَتِهِمْ، وَسَبِيلُ اللهِ هِيَ طَرِيقُ الْحَقِّ وَالِانْتِصَارُ لَهُ، فَمِنْهُ إِعْلَاءُ كَلِمَةَ اللهِ وَنَشْرُ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُ دِفَاعُ الْأَعْدَاءِ، إِذَا هَدَّدُوا أَمْنَنَا، أَوْ أَغَارُوا عَلَى أَرْضِنَا أَوْ نَهَبُوا أَمْوَالَنَا، أَوْ صَادَرُونَا فِي تِجَارَتِنَا، وَصَدُّونَا عَنِ اسْتِعْمَالِ حُقُوقِنَا مَعَ النَّاسِ، فَسَبِيلُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ تَأْيِيدِ الْحَقِّ الَّذِي قَرَّرَهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَشْرُونَ بِمَعْنَى يَبِيعُونَ قَوْلًا وَاحِدًا بِلَا احْتِمَالٍ، وَاسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ فِيهِ مُطَّرِدٌ فَفِي سُورَةِ يُوسُفَ: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ (١٢: ٢٠) ، أَيْ: بَاعُوهُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (٢: ١٠٢) ، أَيْ: بَاعُوهَا وَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ (٢: ٢٠٧) ; أَيْ يَبِيعُهَا، وَالْبَاءُ فِي صِيغَةِ الْبَيْعِ تَدْخُلُ عَلَى الثَّمَنِ دَائِمًا، فَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيَبْذُلَهَا وَيَجْعَلَ الْآخِرَةَ ثَمَنًا لَهَا وَبَدَلًا عَنْهَا فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ.

أَقُولُ: إِنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا فِي يَشْرُونَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ كَمَا اخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِمَعْنَى الِابْتِيَاعِ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ فِي عُرْفِنَا الْآنَ الشِّرَاءُ، وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ شَرَى يَشْرِي يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَاعَ وَبِمَعْنَى ابْتَاعَ، وَإِنَّ اللَّفْظَ فِي الْآيَةِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْبَيْعُ فَهُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الْكَامِلِينَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الِابْتِيَاعُ فَهُوَ لِأُولَئِكَ الْمُبْطِئِينَ لِيَتُوبُوا، وَذَهَبَ الرَّاغِبُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ اسْتِبْدَالِ سِلْعَةٍ بِسِلْعَةٍ دُونَ اسْتِبْدَالِ سِلْعَةٍ بِدَرَاهِمَ، وَالْقُرْآنُ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ شَرَى يَشْرِي بِمَعْنَى بَاعَ يَبِيعُ، وَاشْتَرَى يَشْتَرِي بِمَعْنَى ابْتَاعَ يَبْتَاعُ، فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ أَوِ الْفَصِيحُ وَإِنْ وَرَدَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: " شَرَيْتُ بُرْدًا " بِمَعْنَى اشْتَرَيْتُهُ فِي الشِّعْرِ بِدُونِ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَقَدْ يُذْكَرُ الثَّمَنُ أَوِ الْبَدَلُ وَقَدْ يُسْكَتُ عَنْهُ وَهُوَ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْبَاءُ دَائِمًا سَوَاءٌ اسْتُعْمِلَ الشِّرَاءُ أَوِ الْبَيْعُ فِي الْحِسِّيَّاتِ أَوِ الْمَعْنَوِيَّاتِ.

وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا أَيْ وَمَتَى كَانَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ - لَا لِأَجْلِ الْحَمِيَّةِ وَالْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ - فَكُلُّ مَنْ قُتِلَ بِظَفَرِ عَدُوِّهِ بِهِ فَفَاتَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْقِتَالِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا بَدَلًا مِمَّا فَاتَهُ وَهُوَ إِذَا ظَفِرَ وَغَلَبَ عَدُوَّهُ لَا يَفُوتُهُ ذَلِكَ الْأَجْرُ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَالَهُ

بِكَوْنِ قِتَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ لَا فِي سَبِيلِ الْهَوَى وَالطَّمَعِ.

وَمَا لَكَمَ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ الْتِفَاتٌ إِلَى الْخِطَابِ لِزِيَادَةِ الْحَثِّ عَلَى الْقِتَالِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، أَيْ: وَمَاذَا ثَبَتَ لَكُمْ مِنَ الْأَعْذَارِ فِي حَالِ تَرْكِ الْقِتَالِ حَتَّى تَتْرُكُوهُ؟ أَيْ: لَا عُذْرَ لَكُمْ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِقَامَةِ التَّوْحِيدِ مَقَامَ الشِّرْكِ، وَإِحْلَالِ الْخَيْرِ مَحَلَّ الشَّرِّ، وَوَضْعِ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، فِي مَوْضِعِ الظُّلْمِ وَالْقَسْوَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>