للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كَبَرَاءِ السِّيَاسِيِّينَ مِنْ خُصُومِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَلُورْدَ كُرُومَرَ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ بِمِصْرَ، فَإِنَّهُ شَهِدَ فِي تَقْرِيرِهِ السَّنَوِيِّ الْأَخِيرِ عَنْ مِصْرَ بِنَجَاحِ الْإِسْلَامِ الْبَاهِرِ فِي التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ دُونَ التَّشْرِيعِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، وَعَلَّلَ الْأَخِيرَ بِأَنَّ مَا وُضِعَ مُنْذُ أَكْثَرِ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوَافِقَ مَصَالِحَ جَمِيعِ النَّاسِ الْآنَ وَفِي كُلِّ آنٍ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ كِتَابًا سَأَلْتُهُ فِيهِ هَلْ يَعْنِي بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، أَمِ الْفِقْهَ الَّذِي وَضَعَهُ الْعُلَمَاءُ وَمَزَجُوا فِيهِ آرَاءَهُمْ بِمَا يَأْخُذُونَهُ عَنْهُمَا وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟ . وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَأَنَا مُسْتَعِدٌّ لِإِظْهَارِ خَطَئِهِ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا قَالَ فِيهِ: " إِنَّنِي عَنَيْتُ بِمَا كَتَبْتُ مَجْمُوعَ الْقَوَانِينِ

الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تُسَمُّونَهَا الْفِقْهَ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، وَلَمْ أَعْنِ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ نَفْسَهُ " إِلَخْ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مَنْ أَظْهَرِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، فَإِنَّ عُلُومَ الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْغَيْبِيَّةِ وَالْآدَابِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ هِيَ أَعْلَى الْعُلُومِ، وَقَلَّمَا يَنْبُغُ فِيهَا مِنَ الَّذِينَ يَنْقَطِعُونَ لِدِرَاسَتِهَا السِّنِينَ الطِّوَالَ إِلَّا الْأَفْرَادُ الْقَلِيلُونَ، فَكَيْفَ يَسْتَطِيعُ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَا نَشَأَ فِي بَلَدِ عِلْمٍ وَتَشْرِيعٍ أَنْ يَأْتِيَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا تَحْقِيقًا وَكَمَالًا، وَيُؤَيِّدَهُ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ بَعْدَ أَنْ قَضَى ثُلْثَيْ عُمْرِهِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَمْ يَنْطِقْ بِقَاعِدَةٍ وَلَا أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهَا، وَلَا حَكَمَ بِفَرْعٍ مِنْ فُرُوعِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى؟ .

إِعْجَازُ الْقُرْآنِ بِعَجْزِ الزَّمَانِ عَنْ إِبْطَالِ شَيْءٍ مِنْهُ:

(الْوَجْهُ السَّادِسُ) : أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، وَيَصِفُ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَشَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَدَرَارِيهَا وَنُجُومَهَا وَالْأَرْضَ وَالْهَوَاءَ وَالسَّحَابَ وَالْمَاءَ مِنْ بِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَعُيُونٍ وَيَنَابِيعَ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِكَثِيرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، وَبَيَانٌ لِطَرِيقِ التَّشْرِيعِ السَّوِيِّ لِلْأُمَمِ، وَقَدْ حَفِظَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِيهِ بِكَلِمِهِ وَحُرُوفِهِ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنَيِّفٍ، ثُمَّ عَجَزَتْ هَذِهِ الْقُرُونُ الَّتِي ارْتَقَتْ فِيهَا جَمِيعُ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ أَنْ تَنْقُضَ بِنَاءَ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ، أَوْ تُبْطِلَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ، أَوْ تُكَذِّبَ خَبَرًا مِنْ أَخْبَارِهِ، وَهِيَ الَّتِي جَعَلَتْ فَلْسَفَةَ الْيُونَانِ دَكًّا، وَنَسَخَتْ شَرَائِعَ الْأُمَمِ نَسْخًا، وَتَرَكَتْ سَائِرَ عُلُومِ الْأَوَائِلِ قَاعًا صَفْصَفًا، وَوَضَعَتْ لِأَخْبَارِ التَّارِيخِ قَوَاعِدَ فَلْسَفِيَّةً، وَرَجَعَتْ فِي تَحْقِيقِهَا إِلَى مَا عَثَرَ عَلَيْهِ الْمُنَقِّبُونَ مِنَ الْآثَارِ الْعَادِيَّةِ، وَحَكَّمَتْ فِيهَا أُصُولَ الْعُمْرَانِ، وَمَا يُسَمُّونَهُ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ، بِحَيْثُ لَمْ تُبْقِ لِعُلَمَاءِ الْأَوَائِلِ كِتَابًا غَيْرَ مُدَعْثَرِ الْأَعْضَادِ سَاقِطِ الْعِمَادِ.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَلَامَتِهِ مِنَ التَّعَارُضِ وَالِاخْتِلَافِ، فَتِلْكَ فِي الْمَاضِي، وَهَذِهِ فِي الْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، ذَاكَ الِاخْتِلَافُ يَقَعُ مِنَ النَّاسِ بِقِلَّةِ الْعِرْفَانِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>