إِذَا شَكُّوا فِي الْأَمْرِ، هَلْ هُوَ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ مِنْ رَأْيِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجْتِهَادِهِ وَكَانَ لَهُمْ رَأْيٌ آخَرَ سَأَلُوهُ، فَإِنْ أَجَابَهُمْ بِأَنَّهُ مِنَ اللهِ أَطَاعُوهُ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ، وَإِنْ قَالَ إِنَّهُ مِنْ رَأْيِهِ ذَكَرُوا رَأْيَهُمْ وَرُبَّمَا رَجَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَأْيِهِ إِلَى رَأْيِهِمْ كَمَا فَعَلَ فِي بَدْرٍ وَأُحُدٍ.
فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يُطَاعُ لِذَاتِهِ ; لِأَنَّهُ رَبُّ النَّاسِ وَإِلَهُهُمْ وَمَلِكُهُمْ، وَهُمْ عَبِيدُهُ الْمَغْمُورُونَ بِنِعَمِهِ، وَأَنَّ رُسُلَهُ إِنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ عَنْهُ مِنْ
حَيْثُ إِنَّهُمْ رُسُلُهُ لَا لِذَاتِهِمْ، وَمِثَالُ ذَلِكَ الْحَاكِمُ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي تَنْفِيذِ شَرِيعَةِ الْمَمْلَكَةِ وَقَوَانِينِهَا، وَهُوَ مَا يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْأَوَامِرِ الرَّسْمِيَّةِ، وَلَا تَجُبْ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
قَالَ الرَّازِيُّ: قَالَ مُقَاتِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللهَ وَمَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ "، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: قَدْ قَارَبَ هَذَا الرَّجُلُ الشِّرْكَ، وَهُوَ أَنْ نَهَى أَنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ، وَيُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبًّا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ أَلْبَتَّةَ لِلرَّسُولِ وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ لِلَّهِ، انْتَهَى.
وَوَجْهُ قَوْلِ مُقَاتِلٍ هُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ لَا يَكُونُ مُسْتَعْبَدًا خَاضِعًا إِلَّا لِخَالِقِهِ وَحْدَهُ دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ شِرْكٌ، وَالشِّرْكُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَرَى لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ سُلْطَةً غَيْبِيَّةً وَرَاءَ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَتَرْجُو نَفْعَهُ وَتَخَافُ ضُرَّهُ وَتَدْعُو وَتَذِلُّ لَهُ، سَوَاءٌ شَعَرْتَ فِي تَوَجُّهِ قَلْبِكَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يَنْفَعُكَ بِذَاتِهِ، أَوْ بِتَأْثِيرِهِ فِي إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - بِحَيْثُ يَفْعَلُ لِأَجْلِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ لَوْلَاهُ بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنْ تَرَى لِبَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ حَقَّ التَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لِذَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: يُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَهُ رَبًّا، وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتِّخَاذَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ فِيمَا يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ - تَعَالَى - شُبْهَةَ الْمُنَافِقِينَ وَأُغْلُوطَتِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ إِنَّمَا يُطَاعُ فِيمَا هُوَ مُرْسَلٌ فِيهِ وَمَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِهِ عَنْ رَبِّهِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ يَكُونُ أَعَزَّ النَّاسِ نَفْسًا، وَأَعْظَمَهُمْ كَرَامَةً، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَسْتَبِدَّ فِيهِ حَاكِمٌ، وَلَا أَنْ يَسْتَعْبِدَهُ سُلْطَانٌ ظَالِمٌ، وَمَا قَوَى الِاسْتِبْدَادُ فِي الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِضَعْفِ التَّوْحِيدِ فِيهِمْ، فَالتَّوْحِيدُ هُوَ مُنْتَهَى مَا تَصِلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مِنَ الِارْتِقَاءِ وَالْكَمَالِ، فَصَاحِبُ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ يَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَفِي تِلْكَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى هُوَ خَاضِعٌ وَمَقْهُورٌ لِلنَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا النِّظَامُ الْعَامُّ، وَأَنَّ تَفَاوُتَهَا فِي الصِّفَاتِ وَالْخَوَاصِّ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَرْفَعَ الْأَقْوَى فِي صِفَةٍ مَا عَلَى الْأَضْعَفِ رَفْعَ الْإِلَهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute