مِنْهُمْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي أُمُورِ مَعِيشَتِهِ وَعَامَّةِ أُمُورِهِ، لَا مُتَّكِلًا عَلَى عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ وَلَا عَلَى حُكُومَتِهِ، وَحَثَّ قَوْمَهُ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَأَطَالَ فِي وَصْفِهَا.
وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ " التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ ": " قَهْرُ الطِّفْلِ عَلَى الِامْتِثَالِ وَإِلْزَامِهِ إِطَاعَةَ الْأَوَامِرِ يَسْتَلْزِمُ حَتْمًا إِخْمَادَ وِجْدَانِ التَّكْلِيفِ فِي نَفْسِهِ، خُصُوصًا إِذَا طَالَ أَمَدُ ذَلِكَ الْقَهْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ غَيْرُهُ يَتَكَلَّفُ الْحُلُولَ مَحَلَّهُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْحُكْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْإِنْصَافِ وَالْجَوْرِ، لَمْ تَبْقِ لَهُ حَاجَةٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى وِجْدَانِهِ وَاسْتِفْتَاءِ قَلْبِهِ "، ثُمَّ قَالَ:
" الطَّاعَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ حُرِّيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ تَرْفَعُ طَبْعَ الطِّفْلِ، وَالْإِذْعَانُ النَّاشِئُ عَنِ الْقَهْرِ يَحُطُّهُ، فَلِلْأُمِّ وَمُعَلِّمِ الْمَدْرَسَةِ كَلِمَةٌ يَقُولَانِهَا عَنِ الطِّفْلِ الْعَنِيدِ الْقَاسِي وَهِيَ قَوْلُهُمَا: " سَأُذَلِّلُهُ " وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ النَّاشِئِينَ عَلَى طَرِيقَتِنَا الْفَرَنْسِيَّةِ فِي التَّرْبِيَةِ مُذَلَّلُونَ دَائِمًا، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِي اتِّبَاعِهَا مَصْلَحَةٌ لِلْأَحْدَاثِ وَلِلْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ وَلَكِنْ سَائِسُ الْخَيْلِ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ لِلْحِصَانِ الَّذِي يُرَوِّضُهُ: لَا تَجْزَعْ فَإِنِّي أَعْمَلُ هَذَا بِكَ لِمَصْلَحَتِكَ، عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ التَّرْوِيضِ عَلَى الْحِصَانِ أَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَخْسَرُ بِتَرْوِيضِهِ بِاللِّجَامِ وَالْمِهْمَازِ إِلَّا حِدَّتَهُ الْوَحْشِيَّةَ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّكَ إِذَا أَخَذْتَهُ بِالْقَهْرِ وَسُسْتَهُ بِالْإِرْغَامِ تَذْهَبُ بِحُبِّ الْكَرَامَةِ مِنْ نَفْسِهِ، وَتَبْخَسُ قِيمَتَهُ فِي نَظَرِهِ "، وَلَهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي هَذَا انْتَقَدَ بِهِ التَّعْلِيمَ الدِّينِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوَالِبِ الَّتِي تُصُبُّ فِيهَا الْمَوَادُّ لِتُكَونَ آلَاتٍ بِشَكْلٍ مَخْصُوصٍ.
فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمُسْتَقِلِّينَ إِلَى تَصْدِيقِ مَا قَالَهُ عَالَمُنَا فِي
التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ مِنْ بِضْعَةِ قُرُونٍ، نَعَمْ إِنَّ الضَّعْفَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُ الْأُمَمَ الْمُنْغَمِسَةَ فِي الْحَضَارَةِ قَدْ عَالَجَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ بِخَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ كَالْبَارُودِ وَالدِّينَامِيتِ وَالْبُخَارِ وَالْكَهْرُبَاءِ، وَبِعَمَلِ الْآلَاتِ الْحَرْبِيَّةِ الَّتِي تَدُكُّ الْمَعَاقِلَ وَتُدَمِّرُ الْحُصُونَ وَتَقْتُلُ فِي الدَّقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ أُلُوفًا مِنَ النَّاسِ، وَبِالنِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ الْجَدِيدِ، فَصَارَ الْغَلَبُ لِأُمَمِ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَدْوِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ وَلَا صِنَاعَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ طَفِقُوا يُعَالِجُونَ مَا تُحْدِثُهُ الْحَضَارَةُ مِنَ الضَّعْفِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْعَزَائِمِ بِالتَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ وَالرِّيَاضَاتِ الْبَدَنِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَنْ حُرِمُوا هَذِهِ الْمَزَايَا مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، وَكَادُوا يُسَخِّرُونَ لِخِدْمَتِهِمْ سَائِرَ الْبَشَرِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَالْإِرَادَةِ أَقْرَبَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَبْعَدَ عَنِ الِاسْتِعْبَادِ لِلْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَلِيَعْتَبِرْ بِذَلِكَ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِالتَّوْحِيدِ، وَهُمْ يَسْتَغِيثُونَ أَهْلَ الْقُبُورِ لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ وَجَلْبِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَيَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا، وَهُوَ لَمْ يَجْعَلِ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ عَنْهُ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَلَا مُسَيْطِرًا وَلَا وَكِيلًا وَلَا جَبَّارًا، وَإِنَّمَا أَرْسَلَهُ مُعَلِّمًا هَادِيًا - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - بَلْ جَعَلَ الْوَازِعَ الدِّينِيَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute