للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الثَّانِي: قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ كَبِيرٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَقَعَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمُتَنَاقِضَةِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ الطَّوِيلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ.

الثَّالِثُ: قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: إِنَّ الْمُرَادَ الِاخْتِلَافُ فِي مَرْتَبَةِ الْفَصَاحَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي جُمْلَةِ مَا يُعَدُّ فِي الْكَلَامِ الرَّكِيكِ، بَلْ بَقِيَتِ الْفَصَاحَةُ فِيهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْسَانَ - وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَنِهَايَةِ الْفَصَاحَةِ - إِذَا كَتَبَ كِتَابًا طَوِيلًا مُشْتَمِلًا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ التَّفَاوُتُ فِي كَلَامِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَعْضُهُ قَوِيًّا مَتِينًا وَبَعْضُهُ سَخِيفًا نَازِلًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ الْمُعْجِزُ مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -.

نَقَلَ الرَّازِيُّ مَا نَقَلَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَنْ مُفَسِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ بَيَّنُوا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَمَزَايَاهُ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْصِيلِهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إِمَامُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَرَافِعُ لِوَائِهِمُ الْمُتَوَفَّى ٤٠٣ هـ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ " إِعْجَازُ الْقُرْآنِ " وَجْهَ إِعْجَازِهِ بِإِخْبَارِهِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَبِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْعُلُومِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالتَّلَقِّي وَالتَّعْلِيمِ مَعَ كَوْنِ مَنْ جَاءَ بِهِ أُمِّيًّا ثُمَّ قَالَ:

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ بَدِيعُ النَّظْمِ عَجِيبُ التَّأْلِيفِ، مُتَنَاهٍ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يُعْلَمُ عَجْزُ الْخَلْقِ عَنْهُ وَالَّذِي أَطْلَقَهُ الْعُلَمَاءُ هُوَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَنَحْنُ نُفَصِّلُ ذَلِكَ بَعْضَ التَّفْصِيلِ وَنَكْشِفُ الْجُمْلَةَ الَّتِي أَطْلَقُوهَا، فَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بَدِيعُ نَظْمِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِعْجَازِ وُجُوهً:

(مِنْهَا) مَا يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ عَلَى تَصَرُّفِ وُجُوهِهِ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِ خَارِجٌ عَنِ الْمَعْهُودِ مِنْ جَمِيعِ كَلَامِهِمْ، وَمُبَايِنٌ لِلْمَأْلُوفِ مِنْ تَرْتِيبِ خِطَابِهِمْ، وَلَهُ أُسْلُوبٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَيَتَمَيَّزُ فِي تَصَرُّفِهِ عَنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْمُعْتَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الطُّرُقَ الَّتِي يَتَقَيَّدُ بِهَا الْكَلَامُ الْمَنْظُومُ تَنْقَسِمُ إِلَى أَعَارِيضِ الشِّعْرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، ثُمَّ إِلَى مُعَدَّلٍ مَوْزُونٍ غَيْرَ مُسَجَّعٍ، ثُمَّ إِلَى مَا يُرْسَلُ إِرْسَالًا فَتُطْلَبُ فِيهِ الْإِصَابَةُ وَالْإِفَادَةُ، وَإِفْهَامُ الْمَعَانِي الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ، وَتَرْتِيبٍ لَطِيفٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدِلًا فِي وَزْنِهِ، وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِجُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُتَعَمَّلُ وَلَا يُتَصَنَّعُ لَهُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَمُبَايِنٌ لِهَذِهِ الطُّرُقِ، وَيَبْقَى عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ السَّجْعِ وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الشِّعْرِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَلَامٌ مُسَجَّعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ فِيهِ شِعْرًا كَثِيرًا وَالْكَلَامُ يُذْكَرُ بَعْدَ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَهَذَا إِذَا تَأَمَّلَهُ الْمُتَأَمِّلُ تَبَيَّنَ بِخُرُوجِهِ عَنْ أَصْنَافِ كَلَامِهِمْ، وَأَسَالِيبِ خِطَابِهِمْ، أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْعَادَةِ وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ تَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ الْقُرْآنِ، وَتَمَيُّزٌ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>