للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ لِاتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهًا أَوَّلَهَا، وَثَانِيَهَا أَنَّهُ جَعَلَ تَحْرِيضَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْقِتَالِ بِمَعْنَى الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ لَهُ أَجْرُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مِمَّنْ تَمَرَّدَ وَعَصَى وِزْرٌ وَلَا عَيْبٌ. وَالثَّالِثَ: جَوَازُ أَنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ يَشْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنْ يَأْذَنَ لِبَعْضِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ فَنَهَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ إِذَا كَانَتْ وَسِيلَةً إِلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللهِ - تَعَالَى - دُونَ الْعَكْسِ، وَهَذَا الْوَجْهُ صَحِيحٌ، وَكَانَ وَاقِعًا وَقَدْ ذَكَرَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ اسْتِئْذَانَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ، وَقَدْ يَسْتَأْذِنُ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِهِ وَيَشْفَعُ لَهُ كَمَا يَسْتَأْذِنُ لِنَفْسِهِ. وَالرَّابِعَ - مِمَّا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ -: جَوَازُ أَنْ يَشْفَعَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضٍ فِي إِعَانَةِ مَنْ لَا يَجِدُ أُهْبَةِ الْقِتَالِ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا، وَحَاصِلُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الشَّفَاعَةَ ذُكِرَتْ فِي هَذَا السِّيَاقِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقَعَ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى الْقِتَالِ أَوِ

الْقُعُودِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْإِتْيَانِ بِالْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَامَّةِ فِي سِيَاقِ بَيَانِ بَعْضِ مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الشَّفَاعَةِ خَمْسَةَ وُجُوهٍ:

أَوَّلُهَا: أَنَّهَا تَحْرِيضُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُمْ عَلَى الْجِهَادِ ; لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ شَفْعًا لَهُمْ، وَذَكَرَ عِلَّةً ثَانِيَةً لِتَسْمِيَةِ التَّحْرِيضِ شَفَاعَةً وَهِيَ أَنَّ التَّحْرِيضَ عَلَى الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَمْرِ بِهِ، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ بَلْ عَلَى الرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الشَّفَاعَةِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَوِ التَّوْجِيهُ يُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ وَالْمُنَاسَبَةِ وَيُقَرِّبُهُ.

ثَانِيهَا: أَنَّهَا شَفَاعَةُ الْمُنَافِقِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي التَّخَلُّفِ، أَوْ شَفَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْإِعَانَةِ، وِفَاقًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ.

ثَالِثُهَا: قَوْلُهُ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَا مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ هَاهُنَا هِيَ أَنْ يَشْفَعَ إِيمَانُهُ بِاللهِ بِقِتَالِ الْكَفَّارِ - أَيْ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ - وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ أَنْ يَشْفَعَ كُفْرُهُ بِالْمَحَبَّةِ لِلْكُفَّارِ وَتَرْكِ إِيذَائِهِمْ، أَقُولُ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِإِعَانَةِ الْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَقِّ وَخِذْلَانِهِمْ.

رَابِعُهَا: قَوْلُ مُقَاتِلٍ: إِنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ الدُّعَاءُ وَإِنَّ نَصِيبَ الشَّافِعِ مِنْهَا يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ: مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ بِالْمَعْنَى، وَذَكَرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ السَّيِّئَةَ مَا كَانَ مِنْ تَحْرِيفِ الْيَهُودِ لِلسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِمْ: " السَّامُ عَلَيْكُمْ " أَيِّ الْمَوْتُ، أَقُولُ: وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا مَعْرُوفٌ وَلَا يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ أَلْبَتَّةَ.

خَامِسُهَا: قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ: إِنَّهَا شَفَاعَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَمَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَهُوَ شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَهُوَ شَفَاعَةٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>