للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ نَهَى الْيَهُودَ عَنِ السَّلَامِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَحْظُرُوا عَلَى النَّاسِ آدَابَ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَرَادُوا أَنْ يَمْنَعُوا غَيْرَ الْمُسْلِمِ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَعْمَلُهُ الْمُسْلِمُ حَتَّى مِنَ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى آيَاتِهِ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلدِّينِ، وَصَوْنٌ لَهُ عَنِ الْمُخَالِفِينَ، وَكُلَّمَا زَادُوا بُعْدًا عَنْ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ زَادُوا إِيغَالًا فِي هَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَإِنَّهُمْ لَيُشَاهِدُونِ النَّصَارَى فِي هَذَا الْعَصْرِ يَجْتَهِدُونَ بِنَشْرِ دِينِهِمْ وَيُوَزِّعُونَ كَثِيرًا مِنْ كُتُبِهِ عَلَى النَّاسِ مَجَّانًا، وَيُعَلِّمُونَ أَوْلَادَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي مَدَارِسِهِمْ لِيُقَرِّبُوهُمْ مِنْ دِينِهِمْ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي تَحْوِيلِ النَّاسِ إِلَى عَادَاتِهِمْ وَشَعَائِرِهِمْ لِيَقَرِّبُوا مِنْ دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْأُورُبِّيِّينَ فَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا عِنْدَمَا وَافَقَهُمْ خِدِيوِي مِصْرَ " إِسْمَاعِيلُ بَاشَا " عَلَى اسْتِبْدَالِ التَّارِيخِ الْمَسِيحِيِّ بِالتَّارِيخِ الْهِجْرِيِّ وَعَدُّوا هَذَا مِنْ آيَاتِ الْفَتْحِ، وَتَرَى الْقَوْمَ الْآنَ

يَسْعَوْنَ فِي جَعْلِ يَوْمِ الْأَحَدِ عِيدًا أُسْبُوعِيًّا لِلْمُسْلِمِينَ يُشَارِكُونَ فِيهِ النَّصَارَى بِالْبَطَالَةِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ نَرَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَزَالُونَ يُحِبُّونَ مَنْعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَخْذِ بِآدَابِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا تَعْظِيمٌ لِلدِّينِ، وَكَأَنَّ هَذَا التَّعْظِيمَ لَا نِهَايَةَ لَهُ إِلَّا حَجْبَ هَذَا الدِّينِ عَنِ الْعَالَمِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَسَيَرْجِعُونَ عَنْهُ بَعْدَ حِينٍ اهـ.

هَذَا مَا أَفْتَيْنَا بِهِ مُنْذُ بِضْعِ سِنِينَ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْفَتْوَى رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِلَفْظِ: " وَعَلَيْكُمْ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، وَرَوِيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَدَمَ ابْتِدَائِنَا إِيَّاهُمْ بِالسَّلَامِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ لِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ اقْتَضَاهَا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحُرُوبِ وَكَانُوا هُمُ الْمُعْتَدِينَ فِيهَا، رَوَى أَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي رَاكِبٌ غَدًا إِلَى يَهُودَ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ، فَيَظْهَرُ هُنَا أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يَبْدَءُوهُمْ لِأَنَّ السَّلَامَ تَأْمِينٌ، وَمَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ آمِنٍ مِنْهُمْ لِمَا تَكَرَّرَ مِنْ غَدْرِهِمْ وَنَكْثِهِمْ لِلْعَهْدِ مَعَهُ ; فَكَانَ تَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ تَخْوِيفًا لَهُمْ لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إِلَى الْمُوَاتَاةِ، وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ جَوَازَ ابْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ مُحَيْرِيزٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - قَالَ وَهُوَ وَجْهٌ لِأَصْحَابِنَا، وَعِنْدِي أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ سَبَبِ الْأَحَادِيثِ لِأَجْلِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهَا أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ سَبَبِ نُزُولِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ هِدَايَةٌ عَامَّةٌ لِلنَّاسِ يَجِبُ تَبْلِيغُهَا، وَفِي الْأَحَادِيثِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، وَالرَّأْيِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ بِهِ أَنْ يَكُونَ دِينًا وَلَا هِدَايَةً عَامَّةً وَلَا أَنْ يُبَلَّغَ لِلنَّاسِ، فَتَوَقَّفُ فَهْمِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا أَظْهَرُ، وَالَّذِي

<<  <  ج: ص:  >  >>