للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عِدَّةُ آيَاتٍ، أَعَمُّهَا وَأَغْرَبُهَا وَأَعْجَبُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) (٣٦: ٣٦) .

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٥: ١٩) إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ أَكْبَرُ مِثَالٍ لِلْعَجَبِ بِهَذَا التَّعْبِيرِ (مَوْزُونٍ) فَإِنَّ عُلَمَاءَ الْكَوْنِ الْأَخِصَّائِيِّينَ فِي عُلُومِ الْكِيمْيَاءِ وَالنَّبَاتِ قَدْ أَثْبَتُوا أَنَّ الْعَنَاصِرَ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا النَّبَاتُ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ مَقَادِيرَ مُعَيَّنَةٍ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ بِدِقَّةٍ غَرِيبَةٍ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا إِلَّا بِأَدَقِّ الْمَوَازِينِ الْمُقَدِّرَةِ مِنْ أَعْشَارِ الْغِرَامِ وَالْمِلِّيغِرَامِ، وَكَذَلِكَ نِسْبَةُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي كُلِّ نَبَاتٍ. أَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ (كُلِّ) الْمُضَافِ إِلَى لَفْظِ (شَيْءٍ) الَّذِي هُوَ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَوْصُوفِ بِالْمَوْزُونِ - تَحْقِيقٌ لِمَسَائِلَ عِلْمِيَّةٍ فَنِّيَّةٍ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا يَخْطُرُ بِبَالِ بَشَرٍ قَبْلَ هَذَا الْعَصْرِ، وَلَا يُمْكِنُ بَيَانُ مَعْنَاهَا بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا بِتَصْنِيفِ كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (٣٩: ٥) تَقُولُ الْعَرَبُ: كَارَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ إِذَا أَدَارَهَا وَلَفَّهَا، وَكَوَّرَهَا بِالتَّشْدِيدِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ وَتَكْثِيرٍ، فَالتَّكْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: إِدَارَةُ الشَّيْءِ عَلَى الْجِسْمِ الْمُسْتَدِيرِ كَالرَّأْسِ، فَتَكْوِيرُ اللَّيْلِ عَلَى النَّهَارِ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي كُرَوِيَّةِ الْأَرْضِ، وَفِي بَيَانِ حَقِيقَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ فِي الْجُغْرَافِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) (٧: ٥٤) .

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٦: ٣٨ - ٤٠) فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ.

وَمِنْهُ الْآيَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْوَارِدَةُ فِي خَرَابِ الْعَالِمِ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَكَوْنِ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَارِعَةٍ تَقْرَعُ الْأَرْضَ قَرْعًا، وَتَصُخُّهَا فَتَرُجُّهَا رَجًّا، وَتَبُسُّ جِبَالَهَا بَسًّا فَتَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَحِينَئِذٍ تَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ لِبُطْلَانِ مَا بَيْنَهَا مِنْ سُنَّةِ التَّجَاذُبِ وَالْآيَاتُ فِي هَذَا - وَفِيمَا قَبْلَهُ - تَدُلُّ دَلَالَةً صَرِيحَةً عَلَى بُطْلَانِ مَا كَانَ يَقُولُهُ عُلَمَاءُ الْيُونَانِ وَمُقَلِّدَتُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِ فِي الْأَفْلَاكِ وَالْكَوَاكِبِ وَالنُّجُومِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ مَا تَقَرَّرَ فِي الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَفِي نِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ، وَيَجِدُ الْقَارِئُ تَفْصِيلَ هَذَا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.

فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَعَارِفِ الَّتِي جَاءَتْ فِي سِيَاقِ بَيَانِ آيَاتِ اللهِ وَحِكَمِهِ كَانَتْ مَجْهُولَةً لِلْعَرَبِ أَوْ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ فِي الْغَالِبِ، حَتَّى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَهَا وَيُخْرِجُونَهَا عَنْ ظَوَاهِرِهَا، لِتُوَافِقَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ ظَوَاهِرَ وَتَقَالِيدَ أَوْ مِنْ نَظَرِيَّاتِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْبَاطِلَةِ، فَإِظْهَارُ تَرَقِّي الْعِلْمِ لِحَقِيقَتِهَا الْمُبَيَّنَةِ فِيهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُوحًى بِهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى.

هَذِهِ أَمِثْلَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْفُنُونِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي خَطَرَتْ بِالْبَالِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ وَلَا مُرَاجَعَةٍ إِلَّا لِإِعْدَادِ الْآيَاتِ وَالسُّورِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْزِيزِهَا بِبَعْضِ الْأَمِثْلَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>