لَمَّا بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - أَحْكَامَ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ مُخَادَعَةً وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعِينُونَ أَهْلَهُ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِينَ يُعَاهِدُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السِّلْمِ وَيُحَالِفُونَهُمْ عَلَى الْوَلَاءِ وَالنَّصْرِ، ثُمَّ يَغْدُرُونَ وَيَكُونُونَ عَوْنًا لِأَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ، نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَ قَتْلِ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُعَاهِدٍ وَذِمِّيٍّ وَمَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ خَطَأً فَقَالَ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا، بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ النَّفْيِ نَفْيٌ لِلشَّأْنِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْفِعْلِ، أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا مِنْ خُلُقِهِ وَعَمِلِهِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا مَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ - وَهُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْحَاكِمُ عَلَى إِرَادَتِهِ الْمُصَرِّفَةُ لِعَمَلِهِ - هُوَ الَّذِي يَمْنَعُهُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ أَنْ يَجْتَرِحَهُ عَمْدًا، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ خَطَأً فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا خَطَأً، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ مَعْنَاهُ مَا ثَبَتَ وَلَا وُجِدَ قَتْلُ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا خَطَأً، وَهُوَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، بِأَنْ ظَنَّهُ كَافِرًا مُحَارِبًا، وَالْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ - غَيْرُ الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ - مَنْ إِذَا لَمْ تَقْتُلْهُ قَتَلَكَ إِذَا قَدَرَ عَلَى قَتْلِكَ، أَوْ أَرَادَ رَمْيَ صَيْدٍ أَوْ غَرَضٍ فَأَصَابَ الْمُؤْمِنَ، أَوْ ضَرَبَهُ بِمَا لَا يَقْتُلُ عَادَةً كَالصَّفْعِ بِالْيَدِ أَوِ الضَّرْبِ بِالْعَصَا فَمَاتَ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ قَتْلَهُ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ: فَعَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ عَلَى عَدَمِ تَثَبُّتِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، أَيْ عِتْقُ رَقَبَةِ نَسْمَةٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنَ الرِّقِّ ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْدَمَ نَفْسًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ كَفَّارَتُهُ أَنْ يُوجِدَ نَفْسًا، وَالْعِتْقُ كَالْإِيجَادِ، كَمَا أَنَّ الرِّقَّ كَالْعَدَمِ، عُبِّرَ بِالرَّقَبَةِ عَنِ الذَّاتِ لِأَنَّ الرَّقِيقَ يَحْنِي رَقَبَتَهُ دَائِمًا لِمَوْلَاهُ، كُلَّمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ، أَوْ يَكُونُ مُسَخَّرًا لَهُ كَالثَّوْرِ الَّذِي يُوضَعُ النِّيرُ عَلَى رَقَبَتِهِ لِأَجْلِ الْحَرْثِ، وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْأَشَلِّ وَلَا الْمُقْعَدِ ; لِأَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ مُسَخَّرَيْنِ ذَلِكَ التَّسْخِيرَ الشَّدِيدَ فِي الْخِدْمَةِ الَّذِي يُحِبُّ الشَّارِعُ إِبْطَالَهُ وَتَكْرِيمَ الْبَشَرِ بِتَرْكِهِ، وَمَثْلَهُمَا الْأَعْمَى وَالْمَجْنُونُ الَّذِي
قَلَّمَا يَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ وَقَلَّمَا يَشْعُرُ بِذُلِّ الرِّقِّ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْأَعْرَجِ الشَّدِيدِ الْعَرَجِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ كَالْأَعْوَرِ وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَالْحُرُّ الْعَتِيقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ كَرِيمُ الطِّبَاعِ، وَيَقُولُونَ: الْكَرَمُ فِي الْأَحْرَارِ وَاللُّؤْمُ فِي الْعَبِيدِ، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ لُؤَمَاءَ لِأَنَّهُمْ يُسَاسُونَ بِالظُّلْمِ، وَيُسَامُونَ الذُّلَّ، وَالتَّحْرِيرُ جَعْلُ الْعَبْدِ حُرًّا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ مَعْنَى الْمُؤْمِنَةِ هُنَا، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَفُقَهَائِهِمْ أَنَّهَا الَّتِي صَلَّتْ وَعَقَلَتِ الْإِيمَانَ، وَيَظْهَرُ هَذَا فِي الْكَافِرِ الَّذِي يُسْلِمُ دُونَ مَنْ نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ يَجُوزُ عِتْقُهُ فِي الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا هُوَ التَّعْرِيفُ الْمُنَاسِبُ لِزَمَنِهِمُ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الْأَرِقَّاءُ النَّاشِئُونَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute