للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ لِتَأْيِيدِ حُرِّيَّةِ الدِّينِ، وَصَدِّ غَارَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَطْهِيرِ الْأَرْضِ مِنَ الْفَسَادِ، وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْحَقِّ وَالْإِصْلَاحِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، الْعَاجِزِينَ عَنْ هَذَا الْجِهَادِ كَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: لَا يَكُونُ الْقَاعِدُونَ عَنِ الْجِهَادِ بِأَمْوَالِهِمْ بُخْلًا بِهَا وَحِرْصًا عَلَيْهَا، وَبِأَنْفُسِهِمْ إِيثَارًا لِلرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ عَلَى التَّعَبِ وَرُكُوبِ الصِّعَابِ فِي الْقِتَالِ، مُسَاوِينَ لِلْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ بِالسِّلَاحِ وَالْخَيْلِ وَالْمُؤْنَةِ، وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْقَتْلِ

فِي سَبِيلِ الْحَقِّ ; لِأَجْلِ مَنْعِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ; لِأَنَّ الْمُجَاهِدِينَ هُمُ الَّذِينَ يَحْمُونَ أُمَّتَهُمْ وَبِلَادَهُمْ، وَالْقَاعِدِينَ الَّذِينَ لَا يَأْخُذُونَ حَذْرَهُمْ، وَلَا يُعِدُّونَ لِلدِّفَاعِ عُدَّتَهُمْ، يَكُونُونَ عُرْضَةً لِفَتْكِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (٢: ٢٥١) ، بِغَلَبَةِ أَهْلِ الطَّاغُوتِ عَلَيْهَا، وَظُلْمِهِمْ لِأَهْلِهَا، وَإِهْلَاكِهِمْ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ فِيهَا.

فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، هَذَا بَيَانٌ لِمَفْهُومِ عَدَمِ اسْتِوَاءِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - رَفَعَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَيْهِمْ دَرَجَةً، وَهِيَ دَرَجَةُ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ دَفْعُ شَرِّ الْأَعْدَاءِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ وَالْبِلَادِ وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى، أَيْ: وَوَعَدَ اللهُ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ عَنِ الْجِهَادِ عَجْزًا مِنْهُمْ عَنْهُ، وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهِ فَقَامُوا بِهِ، فَإِنَّ إِيمَانَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدٌ وَإِخْلَاصَهُ وَاحِدٌ، وَقَدَّمَ مَفْعُولَ وَعَدَ، الْأَوَّلَ وَهُوَ لَفْظُ كُلًّا، لِإِفَادَةِ حَصْرِ هَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ فِي هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ، الْمُتَفَاضِلَيْنِ فِي الْعَمَلِ، لِقُدْرَةِ أَحَدِهِمَا وَعَجْزِ الْآخَرِ، وَفَسَّرَ قَتَادَةَ الْحُسْنَى بِالْجَنَّةِ.

وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، عَلَى الْقَاعِدِينَ، مِنْ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَجْرًا عَظِيمًا، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: دَرَجَاتٌ مِنْهُ وَمَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ، أَمَّا الدَّرَجَاتُ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِيهَا مِنْ تَفَاوُتِ دَرَجَاتِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (١٧: ٢١) ، وَبَيَّنَّا أَنَّ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى دَرَجَاتِ الدُّنْيَا فِي الْإِيمَانِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ، لَا فِي الرِّزْقِ وَعَرَضِ الدُّنْيَا، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الدَّرَجَاتِ هُنَا عَلَى مَا يَكُونُ لِلْمُجَاهِدِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ فَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يُقَالُ: الْإِسْلَامُ دَرَجَةٌ، وَالْإِسْلَامُ فِي الْهِجْرَةِ دَرَجَةٌ، وَالْجِهَادِ فِي الْهِجْرَةِ دَرَجَةٌ، وَالْقِتَالُ فِي الْجِهَادِ دَرَجَةٌ اهـ.

وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْجِهَادَ هُنَا عِدَّةَ دَرَجَاتٍ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ

<<  <  ج: ص:  >  >>