حِكْمَةُ الْهِجْرَةِ وَسَبَبُ مَشْرُوعِيَّتِهَا
قَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمِنْ غَيْرِهَا مِمَّا نَزَلَ فِي الْهِجْرَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْهِجْرَةَ شُرِعَتْ لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ أَوْ حِكَمٍ، اثْنَانِ مِنْهَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْأَمْرِ، وَالثَّالِثُ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمَاعَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِيهَا ذَلِيلًا مُضْطَهَدًا فِي حُرِّيَّتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ، فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَكُونُ فِي مَكَانٍ يُفْتَنُ فِيهِ عَنْ دِينِهِ أَوْ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ إِقَامَتِهِ فِيهِ كَمَا يَعْتَقِدُ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْهُ إِلَى حَيْثُ يَكُونُ حُرًّا فِي تَصَرُّفِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وَإِلَّا كَانَتْ إِقَامَتُهُ مَعْصِيَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَعَاصِي، وَإِلَّا جَازَ لَهُ الْإِقَامَةُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِمَا قَالَهُ عَنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ الْمُقِيمِينَ فِي بِلَادِ الْإِنْكِلِيزِ مُتَمَتِّعِينَ بِحُرِّيَّتِهِمُ الدِّينِيَّةِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ تَلَقِّي الدِّينِ وَالتَّفَقُّهُ فِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاصًّا بِالزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إِرْسَالُ الدُّعَاةِ وَالْمُرْشِدِينَ مِنْ قِبَلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَذِّرًا لِقُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ أَسْلَمَ فِي مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ عُلَمَاءُ يَعْرِفُونَ أَحْكَامَ الدِّينِ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى حَيْثُ يَتَلَقَّى الدِّينَ وَالْعِلْمَ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ - الْمُتَعَلِّقُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ: فَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَجْمُوعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ جَمَاعَةٌ أَوْ دَوْلَةٌ قَوِيَّةٌ تَنْشُرُ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، وَتُقِيمُ أَحْكَامَهُ وَحُدُودَهُ، وَتَحْفَظُ
بَيْضَتَهُ وَتَحْمِي دُعَاتَهُ وَأَهْلَهُ مِنْ بَغْيِ الْبَاغِينَ، وَعُدْوَانِ الْعَادِينَ وَظُلْمِ الظَّالِمِينَ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْجَمَاعَةُ أَوِ الدَّوْلَةُ أَوِ الْحُكُومَةُ ضَعِيفَةً يُخْشَى عَلَيْهَا مِنْ إِغَارَةِ الْأَعْدَاءِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْنَمَا كَانُوا وَحَيْثُمَا حَلُّوا أَنْ يَشُدُّوا أَزْرَهَا، حَتَّى تَقْوَى وَتَقُومَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى هِجْرَةِ الْبَعِيدِ عَنْهَا إِلَيْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وُجُوبًا قَطْعِيًّا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَإِلَّا كَانَ رَاضِيًا بِضَعْفِهَا وَمُعِينًا لِأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَتِهِ وَخَفْضِ كَلِمَتِهِ.
كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ مُتَحَقِّقَةً فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَمَّا فُتِحَتْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى الشِّرْكِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا وَصَارَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْسِلُ إِلَى كُلِّ جِهَةٍ مَنْ يُعَلِّمُ أَهْلَهَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فَزَالَ سَبَبُ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ لِأَجْلِ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا لِأَجْلِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ إِلَّا نَادِرًا، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا لِتَأْيِيدِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَقْوِيَتِهِمْ وَنَصْرِهِمْ عَلَى مَنْ كَانَ يُحَارِبُهُمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ ; وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute