للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِيتَائِهِ إِيَّاهَا جَهْرًا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - ; وَلِهَذَا قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (٢: ٢٧١) ، فَقَدْ مَدَحَهَا اللهُ - تَعَالَى - مُطْلَقًا، وَجَعَلَ إِخْفَاءَ مَا يُؤْتَاهُ الْفَقِيرُ مِنْهَا خَيْرًا مِنْ إِظْهَارِهِ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ يَتَأَذَّى بِالْإِظْهَارِ وَيَرَاهُ إِهَانَةً لَهُ، وَلَوْ كَانَ جَمِيعُ الْفُقَرَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يَتَأَذَّوْنَ بِالْإِظْهَارِ لَحَرَّمَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَأَوْجَبَ الْإِخْفَاءَ إِيجَابًا، فَلَمَّا ذَمَّ اللهُ - تَعَالَى - النَّجْوَى وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَكَانَ مِمَّا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَلَّا يَتَنَاجَى الْمُتَعَاوِنُونَ عَلَى الْخَيْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي أَمْرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالصَّدَقَةِ الْخَفِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا مِنْ أَهْلِ الْحَيَاءِ وَالْكَرَامَةِ الَّذِينَ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ بِأَمْرِهِمْ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، اسْتَثْنَى الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النَّجْوَى حَتَّى لَا يَتَحَامَاهُ الْمُتَوَرِّعُونَ خَوْفًا أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ.

وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ فَقَدْ يَخْفَى وَجْهُ اسْتِثْنَائِهِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ الْمُنْكَرِ، أَيْ: مَا تَعْرِفُهُ وَتُقِرُّهُ النُّفُوسُ وَتَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ، لِمُوَافَقَتِهِ لِلْمَصَالِحِ وَانْطِبَاقِهِ عَلَى الطِّبَاعِ وَالْعُقُولِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْفِرَاسَةِ مِنَ الْعَرَبِ: إِنِّي لَأَعْرِفُ فِي عَيْنَيِ الرَّجُلِ إِذَا عَرَفَ، وَأَعْرِفُ فِي عَيْنَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ، وَأَعْرِفُ فِيهِمَا إِذَا لَمْ يَعْرِفْ وَلَمْ يُنْكِرْ إِلَخْ، وَلَمَّا كَانَ الشَّرْعُ مُهَذِّبًا لِلنُّفُوسِ وَمُرْشِدًا لِلْعُقُولِ، وَمُقَوِّمًا لِمَا مَالَ وَانْآدَ مِنْ أَحْكَامِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِسُوءِ اجْتِهَادِ النَّاسِ صَارَ أَعْرَفُ الْمَعْرُوفِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ أَوْ أَقَرَّهُ وَاسْتَحْسَنَهُ، وَأَنْكَرُ الْمُنْكَرَ مَا نَهَى عَنْهُ وَذَمَّهُ وَكَرِهَهُ، فَالَّذِي يُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى مَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ يَسْتَاءُ فِي الْغَالِبِ مِنَ الْآمِرِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنْ أَقْرَانِهِ حَقِيقَةً أَوِ ادِّعَاءً ; لِأَنَّهُ يَرَى فِي أَمْرِهِ إِيَّاهُ اسْتِعْلَاءً عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَاتِّهَامًا لَهُ بِالتَّقْصِيرِ أَوِ الْجَهْلِ، وَإِشْرَافًا عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّهْذِيبِ، مِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَتِ النَّجْوَى بِهِ أَبْعَدَ عَنِ الْإِيذَاءِ، وَأَقْرَبَ إِلَى الْقَبُولِ وَالْإِمْضَاءِ، وَكَانَ مِنْ هِدَايَةِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، لِيَكُفَّ عَنْهُ مُحِبُّو الِاسْتِعْلَاءِ، وَلَا يَتَأَثَّمُ بِهِ مَنْ يَعْرِفُونَ فَائِدَةَ الْإِخْفَاءِ.

وَأَمَّا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ فَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِظْهَارِهِ

وَالتَّحَدُّثِ بِهِ فِي الْمَلَأِ شَرٌّ كَبِيرٌ، وَضَرَرٌ مُسْتَطِيرٌ، فَيَنْقَلِبُ الْإِصْلَاحُ الْمَطْلُوبُ إِفْسَادًا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ عَاشَ بَيْنَ النَّاسِ، وَاخْتَبَرَ أَحْوَالَهُمْ فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْخِصَامِ وَالشِّقَاقِ وَالتَّنَازُعِ وَالصُّلْحِ وَالتَّرَاضِي بِسَعْيِ مُحِبِّي الْإِصْلَاحِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَا يُطَالَبُ بِهِ مِنَ الصُّلْحِ كَانَ بِأَمْرِ زَيْدٍ مِنَ النَّاسِ، لَا يَسْتَجِيبُ وَلَا يَقْبَلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصُدُّهُ عَنِ الرِّضَا بِذَلِكَ ذِكْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَعِلْمُهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ بِسَعْيٍ وَتَوَاطُؤٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ مُصَالَحَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ أَنْ يَظُنَّ النَّاسُ ذَلِكَ، وَالْجَهْرُ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ قَدْ يُبْطِلُ ذَلِكَ، فَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْكِتْمَانِ وَأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِهِ وَالسَّعْيُ إِلَيْهِ بَيْنَ مَنْ يَتَعَاوَنُونَ عَلَيْهِ بِالنَّجْوَى فِيمَا بَيْنَهُمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>