للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النَّفْسُ بِالْإِيمَانِ، فَيَكُونُ هِدَايَةً تَزَعُ صَاحِبَهَا عَنِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَتُوَجِّهُهُ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَلَغَ مَرْتَبَةَ الْكَمَالِ فِيهَا، فَاهْتَدَتْ بِهِ الْأُمَمُ وَالشُّعُوبُ، فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِهَا عَلَى عِلْمٍ بِحَقِيقَتِهَا، لَا تَقْلِيدًا لِآبَائِهِ وَقَوْمِهِ فِيهَا، لَا يَسَعُهُ أَنْ يُؤْمِنَ بِالتَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ أَوِ الْفِيدَا أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْمُرْسَلِينَ الْأَوَّلِينَ وَلَا يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْمَلُهَا فِي مَوْضُوعِهَا، وَأَصَحُّهَا نَسَبًا إِلَى مَنْ جَاءَ بِهِ.

اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا

لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفَأَ الْقِنْدِيلَا

وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ لِلْعَالَمِ بِأَكْمَلِ نِظَامٍ، الْمُدَبِّرُ لِأُمُورِ الْعِبَادِ بِالْحِكْمَةِ وَالْإِحْكَامِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وَتَأَمَّلَ فِي تَارِيخِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَنْقُولِ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا وَمُتَوَاتِرًا، فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ، وَإِتْيَانَهُ بِهَذَا الْقُرْآنِ، الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِعْجَازِ، قَدْ كَانَ مِنْ أُمُورِ التَّعَالِيمِ الْبَشَرِيَّةِ الْكَسْبِيَّةِ، وَمَا حَدَثَ بِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ الَّتِي قَلَبَتْ تَارِيخَ الْبَشَرِ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ، بَلْ لَا يَسَعُهُ إِذَا أَنْصَفَ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ الِانْقِلَابِيَّةَ فِي دِينِ الْأُمَمِ وَدُنْيَاهَا، قَدْ كَانَتْ بِعِنَايَةٍ مِنَ الرَّبِّ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ، الْمُدَبِّرِ الرَّحِيمِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَفَاضَ هَذَا الْقُرْآنَ الْحَكِيمَ عَلَى قَلْبِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْأُمِّيِّ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قَضَاهَا فِي قَوْمِهِ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ عُلُومِهِ، وَلَا مِمَّا يَقْرُبُ مِنْ أُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ.

هَذَا وَإِنَّ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مُقْدِمَاتٍ عِلْمِيَّةً وَفَلْسَفِيَّةً مُسْتَنْبَطَةً مِنْ حَاجَةِ الْبَشَرِ فِي كَمَالِهِمُ النَّوْعِيِّ فِي الدُّنْيَا، وَفِي اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ إِلَى هِدَايَةِ الرِّسَالَةِ، وَقَدْ عَقَدَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لِهَذَا الْبَحْثِ فَصْلًا طَوِيلًا فِي " رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ " سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) : مَبْنِيٌّ عَلَى عَقِيدَةِ خُلُودِ

النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ وَكَوْنِهَا لَا تَزُولُ مِنَ الْوُجُودِ بِالْمَوْتِ الْمَعْهُودِ، وَهِيَ عَقِيدَةٌ اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا كَلِمَةُ الْبَشَرِ مِنَ الْمِلِّيِّينَ مُوَحِّدِيهِمْ وَوَثَنِيِّيهِمْ وَالْفَلَاسِفَةِ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمَادِّيِّينَ الْجَدَلِيِّينَ الَّذِينَ لَا يَعْتَدُّونَ إِلَّا بِمُدْرَكَاتِ الْحِسِّ.

(وَثَانِيهُمَا) : مَأْخُوذٌ مِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ.

بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ فِي الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْعَقِيدَةِ وَالشُّعُورِ النَّوْعِيِّ الْعَامِّ بِالْبَقَاءِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ طَوْرٍ إِلَى آخَرَ فِي الْحَيَاةِ إِلَى هِدَايَةٍ يَسْتَعِدُّ بِهَا لِلْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَهِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يُدْرِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، فَيَسْتَقِلُّ عَقْلُهُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْهِدَايَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَهُ لِلْبَقَاءِ الَّذِي يَعْقِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ، لَا لِلزَّوَالِ وَالْعَدَمِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَصَوَّرْ وَلَا يَتَخَيَّلْ، وَإِنَّمَا عَاقِبَةُ الْمَوْتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>