ذُكِرُوا ثُمَّتْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا
شَأْنُهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَصْدُرَ عَنْهُ مُخَادَعَةُ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَفْعَلُ الَّذِينَ يَحْتَالُونَ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ وَأَكْلِ الرِّبَا بِتَطْبِيقِ حِيَلِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ لِفُقَهَائِهِمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ وَمَنْعِ الرِّبَا، وَهُوَ الرَّحْمَةُ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمُوَاسَاتُهُمْ وَإِعَانَةُ سَائِرِ أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَعَدَمُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، أَقُولُ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ التَّقْلِيدِيِّ غَيْرِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقِّ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ بِهِ مُخَادَعَةَ اللهِ تَعَالَى قَصْدًا، وَإِنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ فِي مَعْنَى الْمُخَادَعَةِ.
وَالْوَجْهُ الْمَعْقُولُ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ مُخَادَعَةِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمُخَادَعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَهُمْ فِيمَا يُقِيمُونَ بِهِ دِينَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْهُ لَا فِي الْمُعَامَلَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُعَاشَرَةِ، فَإِنَّ الْمُخَادَعَةَ فِي مِثْلِ هَذَا قَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً أَوْ مَكْرُوهَةً إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا غِشٌّ وَلَا ضَرَرٌ، وَالْمُحَرَّمُ مِنْهَا لِضَرَرِهِ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْمُخَادَعَةِ فِي شُئُونِ الْإِيمَانِ وَتَبْلِيغِ دِينِ اللهِ وَإِقَامَةِ كِتَابِهِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُخَادَعَةِ لَهُ وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَضَمَّنُ أَيْضًا تَعْظِيمَ شَأْنِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ مُخَادَعَتِهِمْ بِمُخَادَعَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ خَادِعُهُمْ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى خِدَاعِهِمْ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمُخَادَعَةِ لِلْمُشَاكَلَةِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ (٣: ٥٤) ، وَإِنَّمَا جَعَلُوهُ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ ; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ كَلَفْظِ الْمَكْرِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعَانِي الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ غَالِبًا أَوْ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ صَاحِبِهَا وَعَجْزِهِ وَغَلَبِ ذَلِكَ فِيهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْخِدَاعَ قَدْ يَكُونُ فِي الْخَيْرِ، وَلِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِيقَةِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَقَدْ أَبَاحَ الشَّرْعُ الْخِدَاعَ فِي الْحَرْبِ ; لِأَنَّ الْحَرْبَ فِي الْإِسْلَامِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ، وَلِحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى خِلَافِ مَا يُحِبُّونَ وَمَا يُرِيدُونَ بِلَفْظٍ مُشْتَقٍّ مِنَ الْخَدِيعَةِ، كَأَنَّهُمْ بِخِدَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَسِيرُونَ فِي طَرِيقٍ خَادِعٍ يَضِلُّونَ فِيهِ مَطْلَبَهُمْ وَيَنْتَهُونَ إِلَى الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، مِنْ حَيْثُ يَطْلُبُونَ السَّلَامَةَ وَالْفَلَاحَ، وَهَذَا يُلَاقِي قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ: يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٢: ٩) ، فَخِدَاعُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ لَهَا هُوَ عَيْنُ خَدِيعَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ، إِذْ كَانَتْ سُنَّتُهُ فِيمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَلَفْظُ خَادِعُهُمْ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَالَّذِي يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْغَلَبَةِ، - وَهُوَ مَا تَضُمُّ عَيْنَ فِعْلِهِ الْمُضَارِعِ - أَيْ: وَهُوَ تَعَالَى يَغْلِبُهُمْ فِي الْخَدِيعَةِ يَجْعَلُ خِدَاعَهُمْ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ.
هَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَأُمَّةٍ، يُخَادِعُونَ وَيَكْذِبُونَ، وَيَكِيدُونَ وَيَغُشُّونَ، وَيَتَوَلَّوْنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute